رحل أنيس منصور أكثر كتاب الصحافة شهرة، وقد سمعت من يصفه بأنه فيلسوف الصحافة المصرية، فالرجل بدأ حياته طالباً في قسم الفلسفة، وكان متفوقاً تخرج الأول على فرقته، وظل أقرب تلامذة عبدالرحمن بدوي إلى الفلسفة الوجودية، وأكثرهم تأثراً بها، ولذلك بدأ حياته الأكاديمية، معيداً في قسم الفلسفة، ولكن الصحافة سرقته من الحياة الأكاديمية، فمضى يسبح في عبابها، وأصبح واحداً من أنجح كتاب الصحافة وأرشقهم قلماً، واستخدم معرفته باللغات في السياحة حول العالم، فأصبح واحداً من أشهر كتاب الرحلات في الثقافة العربية المعاصرة، إلى درجة أن كتابه “حول العالم في مائتي يوم” طبع أربعين مرة. وهذا لم يحدث لأي كتاب من تأليف العقاد أو طه حسين أو توفيق الحكيم، وهم الثلاثة الذين يمثلون القمة والمثل الأعلى في حياته. وكان من الطبيعي أن تتيح له الصحافة الشهرة والنجومية، خصوصاً أنه كان يتمتع بأسلوب ممتع جذاب وكتابة سلسلة. ولكن الصحافة نعيم وجحيم في وقت واحد، فهي تدفع كاتبها إلى التماس مع السلطة، أعني التماس الذي يمكن أن يصعق كالكهرباء، فيهوي بصاحبه إلى المأساة التي أهونها الطرد، أو إلى القمة حيث الاقتراب من الحاكم والاتصال الحميم به، وقد عرف أنيس منصور الاثنين معاً، فقد غضب عليه عبد الناصر بسبب مقال أو أكثر، فصدر قرار بفصله من العمل. وكان للفصل وقع مأساوي على أنيس منصور، فلم ينسه قط، وظل منطوياً عليه، إلى أن مات عبد الناصر وجاء السادات، الذي مضى في خط مناقض لعبد الناصر، وفتح الباب لخصومه كي يعبروا عن غضبهم عليه، فأصدر أنيس منصور كتابه “عبد الناصر المُفْتَرى عليه والمفتري علينا”. وعندئذ، رأى أنيس منصور نعيم الصحافة فقربه السادات إليه، وأصبح نديماً له، ورفيقاً مؤانساً في أغلب أحواله، وشهد أنيس منصور رضا الرئيس الذي جعله مستشاراً، ولا شك أن أنيس منصور أحد الذين أشاروا على السادات بالذهاب إلى القدس واستكمال توابع الصلح مع إسرائيل. وكان رسول السادات المفضل في أزمات العلاقات المصرية الإسرائيلية، وكانت تساعده على ذلك ثقافاته الموسوعية، وميوله المسالمة التي جعلت منه موضع ثقة للقيادات الإسرائيلية. مؤكد أنه خسر كثيرا من هذه المواقف، ومن مواقف أخرى، جعلته أقرب إلى الإسرائيليين. ولكن زلاقة لسانه وتمتعه بصفات النديم، فضلا عن نجوميته الصحفية جعلت منه أشبه بالصديق لكثير من الحكام والمشايخ والأمراء العرب، فكان ضيفهم المتكرر الذي يستطيع زخرفة أمسيات المنادمة بذكرياته مع السادات واقترابه من مبارك الذي رأى في تقريبه مظهرا من مظاهر الوجاهة، وظل مخزون أنيس منصور من النوادر والحكايات والأسرار لا ينضب مع قدرة فائقة على إبهار المستمعين، خصوصا إذا كانوا من أنصاف المتعلمين الذين لا احتمال لديهم على القراءة والبحث، وهو حال الطبقة التي ظل أنيس منصور كاتبها المفضل ونديمها المسلي على السواء. رحمه الله.