يعود زوار الصين إلى بلدانهم حاملين معهم ملاحظات بعضها أثار استغرابهم وبعضها أثار دهشتهم المشوبة بقدر من الإعجاب. فالصينيون يأكلون «كل ما تنتجه الطبيعة»، ممّا يدل، من جهة، على غنى المطبخ الصيني المتفرّع بدوره إلى مطابخ شتى. كما يدلّ، من جهة أخرى، على الحاجة المُلحة والمديدة لإطعام أعداد ضخمة من البشر. لكن الصينيين أيضاً لا يحطمون الأيديولوجيات التي سبق أن اعتنقوها أو حُملوا على اعتناقها في مرحلة تاريخية سابقة. فمن دون أن يكونوا بالضرورة متعصبين لكونفوشيتهم، تراهم يعتزون بها، ومع أن مجتمعهم صار رأسمالياً بالكامل، ولا أثر فيه للاشتراكية، تراهم يقدمون أنفسهم للعالم بوصفهم ماركسيين واشتراكيين. أما قطيعتهم العملية مع الماوية فلا تلغي استمرار تعاملهم مع ماو تسي تونغ بوصفه أب الأمة وقائد الثورة.
هذا التصالح مع النفس ومع الماضي هو عنصر قوة مؤكد للنظام الحالي الذي يلعب ورقة القومية بقوة وإصرار. والحال أن التحسن المادي الهائل الذي حدث في العقود الثلاثة الأخيرة، مؤدياً إلى تخليص مئات الملايين من المجاعة، وإلى إثراء مئات آلاف السكان، هو عنصر قوة آخر يعزز النظام. فالصينيون، وإن كان أكثر سيّاحهم يمارسون السياحة داخل الصين نفسها، وهي القارّة التي تقارب مساحتها عشرة ملايين كيلومتر مربّع، فإنّ أقلّيّتهم التي تمارسها في الخارج تعود أشدّ إعجاباً بالصين. ذاك أنّهم يجدون أن بلدهم، لاسيما إذا كانوا من مدن مثل بيكين وشنغهاي، أغنى وأكثر استعراضاً للسلع الكماليّة من مدن البلدان التي يزورونها. وفوق هذا فإن قلّة معرفة الصينيّين باللغات الأجنبيّة تحدّ من تفاعلهم مع سكان البلدان التي يزورونها، ومن تأثّرهم بها. وهذا يعني أن قابليتهم للإصابة بـ«عدوى» الديمقراطية والليبرالية ستكون محدودة جداً.
إلى ذلك، وكما يلاحظ معظم الزوار، فإن النظام لا يتدخل كثيراً في تفاصيل الحياة اليومية وطرقها. فهو يمنعهم من التعبير السياسي خارج إطار الحزب الشيوعي الحاكم ومقدساته، لكنه لا ينوي لعب دور المعلم والمربي الذي تمارسه أنظمة تحديثية كثيرة. هكذا يبقى ملايين المهاجرين الريفيين إلى المدن الكبرى، والهجرة الداخلية ظاهرة ساطعة في الصين، ريفيي السلوك والعادات، فيما تمتنع السلطة عن لعب أي دور في «تمدينهم» أو تغييرهم.
وهذا كله مما يخاطب مشاعر قديمة وقوية في الأمة التي سمّت نفسها قديماً «إمبراطورية الوسط»، تعبيراً عن نظرتها إلى نفسها بوصفها مركز العالم، وبوصف قيمها وتقاليدها القيم والتقاليد الأصح والأصلح. وأغلب الظن أن التردي الحالي الذي يعيشه الغرب، بقطبيه الأميركي والأوروبي الغربي، يساهم في تكريس هذا الافتخار الذاتي الذي ترعاه الدولة، كما يلقى هوى واستحساناً كبيرين عند السكان الذين لطالما حقدوا على الغربيين بسبب الماضي الاستعماري.
والملاحظات أعلاه لا تعني أن النظام الصيني آمن إلى ما لا نهاية من المشاكل. فالتفاوت بين المناطق الساحلية الغنية وبعض المناطق الداخلية البالغة الفقر يفقأ العين. أما السيطرة على التناقض بين النظام الرأسمالي وحكم الحزب الواحد فقد لا تكون مضمونة دائماً. ومن يدري فقد يتأدّى عن توسّع بيئة رجال الأعمال وأصحاب المشاريع، وعن اشتداد عودها، إلحاح أكبر على تغيير القوانين. فإذا أضفنا نزاع بحر الصين الجنوبي، باتت المبالغة في التفاؤل قابلة للتشكيك. وبالطبع يبقى أضعف ما في النجاح الصيني أنه لم يتحول إلى مثال تقتدي به الشعوب الأخرى خارج ذاك البلد، وهو ما لا يصح في أوروبا والولايات المتحدة. مع هذا، تضعنا الصين أمام نموذج مثير للاهتمام ومغاير لمعظم ما نعرفه من نماذج على سطح الكرة الأرضية.

*كاتب ومحلل سياسي-لندن