إسرائيل وبكل ما يثار ضدها من اتهامات لطالما كانت موضع نقد دولي، وإن بنسب أقل، في معظم الإدارات الأميركية. اليوم، بات الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) يوفر حصانة كاملة لسياسات إسرائيل، يفي بوعوده التي قطعها على نفسه بتوفير الحماية لها في الأمم المتحدة، بصرف النظر عن الجرائم التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني: جرائم الاستيطان، الاعتقالات الجماعية، هدم المنازل، تهويد القدس، وليس أخيراً محاولات شطب وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
الانحياز الأميركي للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة وتغطيته المباشرة على العدوان الإسرائيلي المتواصل بحق الشعب الفلسطيني، وتجاوز الإدارة الأميركية عن الدم الفلسطيني، وعدم محاسبة الاحتلال على انتهاكاته للقانون الدولي، وتمرده على الشرعية الدولية وقراراتها.. كل ذلك شجع إسرائيل على التمادي أكثر فأكثر. وفي هذا السياق المتواصل من الدعم الأميركي غير المشروط، اكتسبت إسرائيل قوة إضافية في مواجهة حركة «المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (بي دي إس)»، الحركة التي باتت قوة لا يستهان بها وتعتبرها إسرائيل «العدو الأول» وتسعى لشيطنتها ونزع الشرعية عنها وعن كل من ينتقد جرائم الدولة العبرية وسياستها العنصرية. لذلك نجدها تشن حملات إعلامية ضد منتقديها، أياً كانوا. ولعل الحملة المستمرة ضد زعيم حزب العمال البريطاني (جيرمي كوربن) بسبب مواقفه المناهضة لإسرائيل وسياستها تجاه الفلسطينيين، أكبر مثال، واتهامه بـ«العداء للسامية»، حتى تجاوزته الحملة واستهدفت حزبه الذي يشكل المعارضة الرئيسية لحكومة حزب المحافظين.
وفي القدس المحتلة، قضت المحكمة المركزية باستمرار منح الحصانة التامة للمحامين الأوروبيين الذين يساعدون الحكومة الإسرائيلية في حملتها ضد «حركة المقاطعة»، وردت المحكمة التماساً طالب بالكشف عن هوية مكاتب المحاماة الأوروبية المتعاقد معها، والتي يرتكز عملها في رفع شكاوى ودعاوى قضائية ضد حركات المقاطعة ونشطائها، وجمع المعلومات عنهم وإعداد مذكرات قضائية بحقهم. وكما نعلم، فقد أنشأت سلطات الاحتلال وزارة الشؤون الاستراتيجية في عام 2015 بهدف «رفع مستوى الجهود المبذولة في مكافحة (بي دي إس)، بالإضافة إلى تقديم رد سريع ومنسق ضد محاولات تشويه صورة إسرائيل في العالم». وفي السنوات الأخيرة دعت إسرائيل الكثير من الحكومات الغربية إلى حظر نشاطات الحركة على أراضيها، بعد أن نجحت «بي دي إس» في إقناع العديد من الشركات الغربية بسحب استثماراتها من المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين.
ومؤخراً، أعلنت 39 جماعة يهودية حول العالم تأييدها مقاطعة إسرائيل. وقالت في رسالة إن «مثل هذا التحرك لا يمثل معاداةً للسامية. ومن المهم أكثر من أي وقتٍ مضى التمييز بين العداء أو التحيّز ضد اليهود من جهة، والنقد المشروع لسياسات إسرائيل ونظام الظلم من جهة أخرى». وأضافت الجماعات اليهودية: «يجب ألا تكون هناك مساواة بين النقد المشروع لإسرائيل والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وبين معاداة السامية. هذه المقارنة تقوّض كلاً من النضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة، والنضال العالمي المناهض لمعاداة السامية». ومن بين الجماعات الموقعة على الرسالة: «صوت اليهود من أجل السلام» (الولايات المتحدة)، و«أكاديميون من أجل المساواة» (إسرائيل)، و«صوت اليهود من أجل العمل» (بريطانيا)، و«أصوات يهودية مستقلة» (كندا)، و«قضاة السلام الفلسطيني الإسرائيلي» (السويد)، و«الصوت اليهودي للسلام العادل في الشرق الأوسط» (ألمانيا)، وغيرها.
آخر تقارير وزارة الخارجية الإسرائيلية أشارت إلى «تصاعد كبير في المقاطعة على المستوى الجماهيري في كثير من الدول، إضافة إلى التعبير عن الغضب والاحتجاج على سياسة القتل في قطاع غزة». وحسب هذه التقارير، التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية، فإن «كثيراً من دول الغرب تتعامل بحذر شديد مع إسرائيل ولا تخفي امتعاضها من سياستها، خصوصاً مع أحداث (مسيرات العودة) المتواصلة». وحذرت التقارير من «أجواء معادية وطرق إبداعية يتفنن فيها دعاة مقاطعة إسرائيل لطرح مقترحاتهم في مختلف أنحاء أوروبا، خصوصاً في الجامعات، حيث لا يمر يوم من دون نشاط معادٍ لإسرائيل». لكن أكثر ما أخاف وزارة الخارجية الإسرائيلية، هو ما يتعلق بالداخل الأميركي، حيث أشارت التقارير إلى «ظاهرة تعتبر جديدة نسبياً، وهي تجنّد قوى سياسية كثيرة من الحزب الديمقراطي الأميركي والأوساط الليبرالية التي تقوم بنشاطاتها تحت شعار (لنحمي إسرائيل من إسرائيل)». وفي هذا السياق، أصدرت الكنيسة الأسقفية الأميركية بياناً قالت فيه إنها «اعتمدت سلسلة قرارات متعلقة بحقوق الإنسان، ترفض الاستثمار في إسرائيل وتدعم حركة المقاطعة العالمية للمنتجات الإسرائيلية»، وهي كنيسة يقدر عدد أتباعها في الولايات المتحدة بنحو مليوني أميركي. وأضافت التقارير أن الحملة «نالت دعم عدد من الكنائس الأميركية كالكنيسة المشيخية وكنيسة المسيح المتحدة والكنيسة المثودية».
شعور إسرائيل بحصانة ضد أي ملاحقة أو مساءلة عما ترتكبه من انتهاكات وجرائم حرب، بدا واضحاً في ظل إدارة ترامب التي أصبحت «متعاونة» بشكل كامل مع الممارسات التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، خاصة مع إغلاقها مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن هذا الأسبوع، عقاباً للسلطة الفلسطينية على مواصلة عملها مع المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم الحرب الإسرائيلية. وهكذا يتضح كيف أن حكومة اليمين المتطرف تستغل بشكل بشع مظلة الدعم والانحياز الأميركيين للاحتلال وسياساته لرسم خريطة مصالحها في الأرض الفلسطينية المحتلة بالقوة، ومن جانب واحد، وعلى حساب الحقوق الفلسطينية.