ولدت الطائفية حين انزلق التعدد في الآراء والاتجاهات والتصورات الاعتقادية أو الدينية إلى تعصب أعمى، أطلق في نفوس المعتقدين كراهية لغيرهم، من منطلق أن ما هم عليه «حلال» وما عليه الآخرون «حرام». كانت في البداية تصورات سائلة غير مستقرة، لكن ظهر لكل طائفة قادة اجتماعيون ومنظرون، أخذوا صيغة رجال دين أو وعاظ أو حكماء، مما ساهم في نقلها إلى حالة جامدة بتقادم وجودها تاريخياً، وتزايد عدد المنتمين إليها، وتراكم موروث شعبي يعبر عنها، مفعم بالحكايات والأساطير التي ترمي إلى تماسكها. في هذا لا يختلف الشيعة عن السُنة إلا في الدرجة، ولا البروتستانت عن الكاثوليك والأرثوذوكس، ولا الهندوس عن البراهمة، ولا البهرة عن الأحمدية، والصدوقيين عن الهيرودسيين في اليهودية.
وقد بدأت في بعض الحالات دينية، ثم جاءت الصراعات الاجتماعية والسياسية لتكسوها بطابع آخر، أضافت إليها أسباباً جديدة للتناحر، وبدلاً من أن تغلب السياسة في واقعيتها وبراجماتيتها وتبدلها وتغيرها الطائفية الدينية، نجدها قد عمقت منها، لأنها لم تقف بها عند حد ما تحكم به السماء على الناس، لكن ما تقضيه المصالح الدنيوية البحتة. وفي الحالة الإسلامية بدأت سياسية في خلاف حول السلطة أيام الفتنة الكبرى، وكان عليها أن تصنع، على عجل، تصوراً دينياً، أو بالأصح أيديولوجيا، تتخذه إطاراً لحركتها، ومبرراً لمسلكها، ونقطة مركزية لانطلاقها، ومنظومة قيم تنهل منها.
إن مسألة الاختلاف لا ضير منها، إن وقفت عند حد التنوع الخلاق، ورسوخ تفهم أن ما عليه أي طائفة دينية هو محض اجتهاد في الدين، وليس كل الدين، وما عليه أي طائفة سياسية هو وجهة نظر في إقرار المصلحة العامة وتقديرها. لكن حين ينتقل الأمر إلى التعصب الأعمى، الذي يفضي إلى انغلاق العقول وشحن النفوس بالحقد والكراهية والبغضاء، فإن واجباً يقع على عاتق من يقومون بالتنوير، من علماء الدين والمثقفين والقادة الاجتماعيين، في أن يقوموا بتفكيك الظاهرة الطائفية، بردها إلى أولياتها في التاريخ: كيف نشأت؟ ولماذا انطلقت؟ وما هي الأفكار الأساسية الحاكمة لها؟ ومن هم الرجال الذي عملوا على تعميقها في الواقع المعيش؟ وما مستوى تأثير أفكارهم القديمة على اللاحقين من أتباع الطائفة؟ وأعتقد أن اتباع أفكار ووسائل التحديث والعصرنة، التي تعلي من دور العقل والمصلحة الاجتماعية والنفس السوية، بوسعها أن تفكك تدريجياً الكثير من الحمولات الفكرية والممارسات الحياتية للطائفية.
وفي تاريخ العرب والمسلمين تعد الطائفية هي أسوأ المراحل، بل هي بدأت بسوء قاد إلى الأسوأ دوماً. فليس هناك ما هو أفدح مما جرى أيام «الفتنة الكبرى»، وحين نقرأ ما كتبه طه حسين، مثلا، عن هذه الفترة العصيبة تقشعر أبداننا، إذ وضع الإسلام في محنة، لا تزال آثارها مستمرة، بدليل أن العنف الطائفي الراهن يحيل إلى تلك الأيام البعيدة، وما جرى بعدها أيام الدولة الأموية.
إن الاختلافات الفقهية، والصراعات القبلية والجهوية في تاريخ المسلمين أمكن الخروج منها نسبياً، وتقليل آثارها السلبية، ليبقى الانقسام المذهبي وحده وهو مصدر الفُرقة الحقيقية والألم، لاسيما مع تماهيه ضمن مشروعين سياسيين متناطحين.
وتتناقض الطائفية بالكلية مع الوطنية، التي تقتضي ابتداء الإيمان بفكرة المواطنة، التي تعني المساواة بين الناس جميعاً في الحقوق والواجبات داخل إطار «الدولة الوطنية المدنية الحديثة»، بغض النظر عن اختلافهم في الدين أو المذهب أو الطبقة أو العرق أو الجهة أو اللغة.
والطائفية الدينية في فكرها وسعيها، تقاوم وجود مثل هذه الدولة الحديثة، لأنها تقتات على الأفكار الرجعية القديمة، التي تعمل على تبرير تمييز أبناء الطائفة عن أمثالهم في سائر الطوائف، وتسعى، بالقطع، إلى توظيف الإمكانيات الاقتصادية والسياسية والثقافية والرمزية للدولة في خدمة المسلك الطائفي، من خلال محاولات مضنية لأبناء الطائفة إلى السيطرة على مؤسسات الدولة وقواها الفاعلة، وحرمان الآخرين منها، أو تقليل منافعهم منها إلى الحد الأدنى. ومع هذا، وعملاً بالواقع لا المثال، يمكن توظيف قضية الوطنية في التخفيف من الآثار السلبية للطائفية، وهي مسألة لا يجب الاقتصار في استغلالها على أوقات الشدة والأزمات السياسية المتقطعة، التي يجد أبناء مختلف الطوائف فيها أنفسهم في حاجة ماسة إلى التغاضي عن أسباب الصراع، أو تأجيلها، إنما يجب أن تكون عملا وطنياً مستمراً.