أقيمت أربعة مراسم تأبين كبرى الأسبوع الماضي تمجيداً لحياة وخدمة السيناتور الراحل «جون ماكين» الذي مات إثر صراع مع مرض سرطان المخ في الخامس والعشرين من أغسطس الفائت. وتفاصيل الفاعليات الأربعة كافة كان قد خطط لها بعناية «ماكين» نفسه. وكانت النتيجة تدفقاً استثنائياً لمشاعر الامتنان والحنين الفياضة لبطل عسكري ورجل دولة أميركي متفرد.
وقد عُقد حفل التأبين الأول في مدينة «فونيكس» بولاية أريزونا، وهي عاصمة الولاية التي خدمها «ماكين» لمدة 36 عاماً كممثل لها في الكونجرس. وكان من أبرز من أبّنوا السيناتور الراحل نائب الرئيس الديمقراطي السابق أثناء إدارة أوباما «جو بايدن». وتقاسم «بايدن» و«ماكين» كثيراً من الأمور المشتركة على الرغم من خلفياتهما المختلفة تماماً واختلاف حزبيهما. ولعل موت «بيو» ابن «بايدن» في عام 2015 بسبب سرطان الدماغ، والذي مات على إثره «ماكين» أيضاً بالمرض ذاته، لم يكن سوى أحد الأمور الكثيرة التي جعلتهما صديقين حميمين. وكلاهما آمن بضرورة التعاون بين الحزبين، «الجمهوري» و«الديمقراطي»، في الكونجرس، وسيطر القلق عليهما من تراجع حسن النية والسلوكيات الحسنة في النظام السياسي الأميركي. كما كانت خصومتهما المتبادلة تجاه الرئيس دونالد ترامب شديدة الوضوح.
وأما حفل التأبين الثاني فعقد يوم الجمعة الماضي في مبنى «الكابيتول» الشهير في العاصمة الأميركية، وشهد تأبيناً من قبل نائب الرئيس «بنس» وقادةً جمهوريين آخرين امتدحوا خلاله «ماكين» وخدمته للشعب الأميركي. وزار آلاف المواطنين الأميركيين العاديين العاصمة واشنطن لتوديع السيناتور الراحل. وكان «بنس» أبرز السياسيين الجمهوريين الذين حضروا التأبين، بعد أن طلبت أسرة «ماكين»، بحسب وصيته الخاصة، عدم حضور ترامب أية مراسم تأبين.
وحفل التأبين الثالث والأكبر والأكثر دراماتيكية كان ذلك الذي عقد في الأول من الشهر الجاري في كاتدرائية واشنطن الوطنية. وقد شهد ذلك التأبين كلمات مؤثرة ألقتها كل من ابنة «ماكين» وزوجته، وكذلك السيناتور الديمقراطي السابق «جو ليبرمان». وأبرز كلمتين كانتا من منافسي «ماكين» اللذين هزماه في انتخابات الرئاسة عامي 2000 و2008، الرئيسين السابقين جورج بوش الابن وباراك أوباما.
ورغم أن أياً من المتحدثين الرئيسيين في مراسم التأبين لم يذكر ترامب صراحة، إلا أن الموضوعات التي تناولتها خطاباتهم جميعها كانت حول أوقات أفضل في أميركا عندما كانت البغضاء أقل مما هي عليه في الوقت الراهن، وعندما كانت العلاقات بين الحزبين، وخصوصاً في الكونجرس، تعتبر خدمةً للولايات المتحدة الأميركية وليست خيانةً. وكان أوضح انتقاد للرئيس ترامب ذلك الذي جاء على لسان «ميجان ماكين»، التي قالت عبارة لا تنسى: «إن أميركا جون ماكين لا تحتاج إلى أن تعود عظيمة مرة أخرى، لأن أميركا كانت عظيمة على الدوام».
وحفل التأبين الأخير جاء في اليوم التالي، أي الأحد الماضي، عندما ووري جثمان ماكين الثرى في مراسم خاصة بجوار أحد زملائه السابقين في الأكاديمية البحرية الأميركية في «أنابوليس» بولاية ماريلاند.
وطوال الأسبوع، تركزت المناقشات في واشنطن على التناقض الكبير بين المشاعر الجياشة التي انتابت كثيراً من الأميركيين، بما في ذلك عدد كبير، وبصورة مفاجئة، من الديمقراطيين، تجاه شخصية «ماكين» التي سمت فوق الحزبية، فضلا عن الغضب الشديد والشعور بالنقمة من قبل كثيرين في أرجاء البلاد، ومن الحزبين السياسيين معاً، في الوقت الراهن، بما في ذلك قادتهما.
لكن هل ستترجم ذكريات الأيام الطيبة إلى عمل يمكن من خلاله تغيير الوضع الراهن؟
سيعتمد الوضع بشكل كبير على نتيجة انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس الأميركي التي لا يفصلنا عنها سوى شهرين. وسيعتمد الأمر بأسره على ما إذا كان الديمقراطيون سيتمكنون من استعادة السيطرة على مجلس النواب. فإذا تمكنوا من ذلك، فمن المحتمل أن يكون لدى بعض الجمهوريين، المتمسكين حالياً بترامب، استعداد للتعاون مع الديمقراطيين من أجل تحقيق بعض الإنجازات التشريعية قبيل الانتخابات الرئاسية في عام 2020. لكن إذا أخفق الديمقراطيون في استعادة السيطرة على المجلس، فإن ترامب سيشعر بالقوة، وسيواصل السعي نحو كثير من خططه المسببة للخلاف.
وبحلول ذلك الوقت، لو أصبحت لدى الجمهوريين أغلبية 5 مقابل 4 قضاة في المحكمة العليا، فإن التشريعات المحافظة الجديدة، ومن بينها رفض أشهر قضايا الإجهاض، التي مررتها المحكمة العليا في 1973 والتي جعلت من الإجهاض مسألة اختيارية بيد المرأة، من المحتمل جداً أن تصبح أبرز المسائل المثيرة للجدل. وسيسبب ذلك اضطراباً على المستوى الوطني، وإلى جانب فداحة الوضع بشأن الهجرة والفجوة الكبيرة بين الأثرياء والفقراء، من المحتمل أيضاً أن نواجه اضطراباً سياسياً لم نشهد له مثيلاً منذ عام 1968.