هناك أمثلة كثيرة، أشرنا إلى بعضها في المقال السابق، تدل على تغلغل الفساد في المشهد الأكاديمي والعلمي في كثير من أنحاء العالم.. لكن المشكلة تكمن في المقومات والعوامل التي جعلت بعض الناس يتهافتون على التزوير والتدليس والغش في المجال الأكاديمي، حيث يحصل بعض الطلاب سنوياً على درجات عالية وشهادات عليا، حتى وصل الأمر درجة الاعتقاد بأن بعض الدول النامية هي بلدانُ عباقرةٍ وأذكياء.. والنتيجة هي غياب أرقام حقيقية لمؤشرات التنمية البشرية في المجال التربوي والتعليمي في هذه الدول.
والحقيقة أن كثيراً من المؤشرات المعترف بها دولياً تؤكد أن الكثير من تلك الدول تتراجع في المجال التعليمي، وأنها تعاني من غياب التعليم الحقيقي، التعليم الذي يبني العقول وينميها ويدرب على المعارف والمهارات الإبداعية والثقافية اللازمة التي تعد الطالب للمستقبل وتبث في وجدانه الطاقة الحيوية التي تدفع بالمجتمعات نحو الأفضل، مما يؤثر مستقبل العالم النامي، ومنه العالم العربي.
لقد أصبح التعليم ينتج طالباً ضعيفاً ليس لديه القدرة على مواجهة تحديات المستقبل أو المشاركة الحقيقية في التنمية التي تحتاجها الأوطان، لذلك ليس غريباً أن يستحل بعض الطلاب ممارسة الغش والفهلوة وشراء البحوث، وليس غريباً أن نجد بعض المتفوقين في مرحلة الثانوية العامة في هذه البلدان (لاسيما من أبناء الأغنياء)، يرسبون في الجامعات الأجنبية حين يلتحقون بها.
يقول الدكتور سعيد إسماعيل في كتابه «الفساد في التعليم»: ذهبت إلى لجنة الامتحان التي كانت ابنتي تجري فيها امتحان «الثانوية العامة»، كي آخذها إلى المنزل بسيارتي، فإذا بها تخرج دامعة العينين، فلما سألتها شكت لي من أن بعض الملاحظين كانوا ينقلون أحياناً أوراق إجابة صحيحة إلى طلاب آخرين ليغشوا منها، وأن بعضهم طلب منها، حيث كانت إجاباتها صحيحة، فكانت ترفض، فإذا بها تسمع تعليقات تتهمها باللاإنسانية، فتصيح بي: هل هذا يصح يا أبي؟ أتعب وأجتهد وأُذاكر طوال العام وأسهر الليالي، ثم إذا بي أتساوى مع آخرين ظلوا يلعبون معظم العام؟!
لا شك أن الأنظمة التعليمية العربية لم تسهم إلى الآن في إنتاج اقتصادات صناعية عربية قادرة على خوض المنافسة الدولية بقوة وإصرار، بل أسهمت في بعض الدول في إيجاد حالة من تفكيك الذات الوطنية، وفي دول أخرى لم تساهم في ترسيخ الولاء الوطني الذي يمنع أبناء الأوطان من دخول دائرة الفساد أو دائرة الخيانة لأوطانهم.
ووفقاً للدكتور سعيد إسماعيل، في كتابه المذكور أعلاه، فإن اختراق الثقافة الوطنية وفك مكوناتها الأساسية التي تخص العقل الوطني وإعادة تركيبه، وفّر للقوى «المعادية» قوى محلية كثيراً ما وقفت على الخط الآخر في مواجهة الولاء لأوطانها، بتنفيذ ما تريده تلك القوى الأجنبية. ومن خلال ذلك الاختراق يتم الاستيلاء على تفكير المواطن العربي وإعادة تشكيل عقله حتى يصبح متحمساً لما يراد للأوطان والثقافات الوطنية، بل تراه يدافع دفاعاً مستميتاً عن خيارات غير وطنية ويقْسِم لك أن ما يفعله كله في سبيل مصلحة الوطن لا مصلحة القوى المعادية.
وإلى ذلك فثمة ظاهرة أخرى برزت خلال الأعوام الأخيرة، حيث تكوّنت في كثير من الدول العربية «مستوطناتٌ ثقافية» أجنبية، فالطالب العربي اليوم يدرس في المدارس الأجنبية والجامعات والمعاهد الأجنبية، وفقاً لمناهج ونظم تعليم أجنبية، فيتخرج منها جميعاً ليجد أمامه مناخاً اجتماعياً مغايراً للمناخ الذي درس فيه، فينشأ الصراع داخل شخصه، صراع بين الولاء للوطن والولاء للآخر الأجنبي!