اقترب منتصف شهر سبتمبر، وهو الموعد الذي حددته شركة «نيت فليكس» الأميركية للتوزيع السينمائي لطرح فيلم «المسخرة» الإسرائيلي الذي يحاول عبثاً القول إن إسرائيل لم تهزم في حرب أكتوبر 1973 وبأن جهاز مخابراتها «الموساد» استطاع اختراق صفوف القيادة العليا المصرية وتجنيد سكرتير الرئيس السادات لشؤون المعلومات أشرف مروان!
هذه «المسخرة» الإسرائيلية تأتي بعد حوالي نصف قرن من الحرب، لتكشف أن الجرح الذي تركه العرب في الكبرياء المخابراتي والعسكري الإسرائيلي ما زال مفتوحاً وما زال ينزف، وأن الفيلم يأتي ليحاول رفع معنويات الأجيال الإسرائيلية التي تقرأ عن الفشل المخابراتي الفادح الذي تسبب فيه جهازا المخابرات الإسرائيلية آنذاك. هذان الجهازان هما جهاز «الموساد» المسؤول عن تجنيد العملاء الأجانب في الخارج، والذي كان يقوده الجنرال تسيفي زامير، وجهاز المخابرات العسكرية المسؤول عن جمع المعلومات العسكرية الميدانية ووضع التقديرات حول نوايا العرب، وكان يقوده الجنرال إيلي زاعيرا. جوهر هذا الفشل المخابراتي هو أن الجهازين أعطيا وعداً للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية آنذاك بتوفير إنذار عن أي نية للعرب لشن هجوم عسكري في سيناء والجولان قبل وقوع الهجوم باثنتين وسبعين ساعة من وقوعه. هذا الوعد المخابراتي طمأن القيادة العليا الإسرائيلية إلى أنه سيكون لديها دائماً الوقت اللازم قبل أي هجوم عربي لتوجيه ضربة إجهاض للقوات العربية المحتشدة على الجبهتين ولاستدعاء قوات الاحتياط وهي القوة الضاربة في الجيش.
إن الواقع التاريخي الذي شهدته الجبهتان المصرية والسورية يوم السادس من أكتوبر عام 1973 هو أن الهجوم العربي قد بدأ في الساعة الثانية بعد الظهر، بينما كان مجلس الوزراء الإسرائيلي مجتمعاً للبحث فيما يجب عمله بعد أن تلقى إنذاراً بأن الهجوم العربي سيبدأ في نفس اليوم عند المغرب في السادسة مساءً. هنا جوهر الفشل المخابراتي الإسرائيلي الذي سمح للقوات المصرية والسورية بأن تبني حشودها منذ منتصف سبتمبر على جبهة الجولان وخلال اليومين الأخيرين من سبتمبر على جبهة سيناء تحت أعين أجهزة الرصد الإسرائيلي دون أن تتحرك القيادة الإسرائيلية، لأن المخابرات الإسرائيلية ظلت تؤكد حتى نهاية يوم الخامس بأن لديها تقديرات بأن السوريين يحشدون قواتهم خوفاً من أن تهاجمهم إسرائيل بعد المعركة الجوية الضخمة التي دارت في يوم الثالث عشر من سبتمبر 1973 فوق الجولان ونجح الطيران الإسرائيلي خلالها في إسقاط 13 طائرة سورية. كذلك صممت المخابرات الإسرائيلية على أن الحشود المصرية هي مجرد مناورة ضخمة لا تستهدف الهجوم وأنها قد تعكس تأثر المصريين من مخاوف سوريا بأن تتعرض لهجوم إسرائيلي. لقد أثبتت التحقيقات التي أجرتها لجنة «أجرانات»، المكلفة بعد الحرب بالتحقيق في أسباب الهزيمة الإسرائيلية، أن الفشل المخابراتي الإسرائيلي كان حقيقيا، وأن الفشل العسكري أيضاً في إدارة المعركة كان مؤكداً، ومن ثم عاقبت قائد المخابرات العسكرية الجنرال زاعيرا ورئيس هيئة الأركان دافيد العازار وقائد جبهة سيناء الجنرال شموئيل جونين، بالعزل والاستبعاد من وظائفهم.
اليوم، وبعد نصف قرن، يأتي فيلم «المسخرة» الإسرائيلي ليحاول عبثاً أن يعالج الكبرياء الإسرائيلي الجريح كما يحاول عبثاً أن يهز معنويات العرب التي تساندها الحقائق التاريخية والتي كان من المستحيل أن تحدث لو كان أشرف مروان، سكرتير الرئيس السادات، جاسوساً مخلصاً لإسرائيل. إن الجنرال زاعيرا يؤكد أن إسرائيل قد تعرضت للخداع بوساطة أشرف مروان الذي كان عميلا مزدوجاً ضلل إسرائيل وخدعها بتوجيه من الرئيس السادات ليأتي فيلم «المسخرة» ليقول العكس. دعوه يقول!