سَيَظلُ النَّص المكتوب شاهداً على أحداث التاريخ الصادق منها والكاذب، ولا تملك أي أمة على وجه الأرض مفراً من أن تقول لأبنائها وللآخرين أيضاً:«هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ»، المليء بقصص لو لم يعشها أهلها ويصنعوها على النحو الذي نراه في دولنا العربية اليوم لعدّت ضرباً من الأساطير، لذلك فإن العودة للتاريخ لمعرفة مشاركة عامة الناس في صياغة الأحداث وتسجيلها يعتبر مهمة جليلة، وليست كما يرى البعض هروباً من الواقع، أواستمتاعاً معرفياّ بقراءة بتجارب من سبقونا، أو حتى حصولاً عن إجابة عن سؤال: ما خلفية الحدث الراهن؟ لهذا كُلّه ولغيره، فإن إحياء التاريخي الشعبي العربي لمواجهة التاريخ الرسمي، أو تكملته أو شرحه، وإظهار العوالم الخفية فيه بالشكل الذي طرحته الكاتبة «دانا السجدي»، أستاذ مشارك في التاريخ الإسلامي بكلية بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية، ضمن كتابها «حلاق دمشق: محدثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني القرن الثامن عشر»، يعدّ صناعة حاضرة للتاريخ، وتنبيهاً لخطورة الفصل بين الفعلين الشعبي والرسمي.
الشام اليوم تصنع التاريخ بالدم والنار، خاصة سوريا، حيث تُوشك الحرب على أن تضع أوزارها بعد المعركة المقبلة والحاسمة في أدلب التي ستكون بتكلفة بشرية عالية كما تشير المعطيات لهذا فإن إحياء سيرة بعض العوام فيها، يجعلنا نكتشف كيفية صنع الحياة لدى السوريين، ويُعمَّق قناعاتنا من أن خروج سوريا من أزمتها في حكم المؤكد، وأن تَخلُّصها من أمراضها، وهي مصائب عربية وإقليمية أيضاً، قد يكون علاجاً شبه دائم لأسقام السنين، وأن عودتها لمحيطها العربي تفرضها الجغرافيا والتاريخ، وأن التواجد الأجنبي الجديد، سواء أكان دعماً للدولة أم للمذهب، أو للطائفة مصيره الزوال، وبناء على ذلك، فإنّ قراءة تراثها الشعبي يمثل ضرورة لنا جميعاً، وأحسب أن هذا ما تقوم به الإمارات على المستوى الثقافي، خاصة أبوظبي، من خلال دائرة الثقافة والسياحة، التي تعمل على تنشيط الذاكرة العربية، وربطها بالعالم على مستوى المنتج المعرفي، خاصة في مجال الترجمة، وخير مثال ترجمتها لكتاب«حلاق الشام» الذي تحدثنا عليه أعلاه، وقد جاء بعبارات سلسلة وبجاذبية من طرف المترجمة دكتورة سرى خريس، أستاذ مشارك في النقد والأدب الإنجليزي في جامعة البلقاء التطبيقية بالأردن.
وبالعودة إلى كتاب «حلاق دمشق»، فإننا نجده كما تقول مؤلفته «يوثق الظاهرة الاجتماعية والأدبية التي حدثت في القرن الثامن عشر في بلاد الشام، وتتناول دراسة الكتّاب والمؤلفين الجدد من الفئات المهمشة تاريخياً الذين دخلوا في نص التاريخ، مثل الحلاق«ابن بدير» الذي ألف كتاباً عن دمشق دون فيه حوادث دمشق اليومية، وعادات العامة من الشعب، ومعتقداتهم، وعلاقاتهم اليومية بصورة تختلف في سردها عن سير الملوك والقادة العسكريين والسياسيين، وترصد تلك الظاهرة تغيرات سياسية واجتماعية حدثت في بلاد الشام في تلك الحقبة، وترتب عليها نتاجاً جديداً في القرن التاسع عشر وخطوة إلى عالم جديد».
ولم يكن الحلاق الدمشقي كما تذكر «السجدي» هو المؤلف الوحيد المنتمي إلى الطبقة العامة، بل هنا غيره، مثل أحد المزارعين، وجنود، وكاتب بمحكمة، وقسّيسين، وكاتب سامري، وتاجر.. إلخ، وهؤلاء وغيرهم ألفوا وكتبوا من زاوية بسطاء المجتمع، فحفظتهم الذاكرة، وها نحن نتذكرهم اليوم، مثلما نذكر أولئك الذين صنعوا مجد أمتنا في الشام وفي غيرها من باب العُرْب، ونمر بحزن، محاولين الابتعاد ما استطعنا عن أثر من كانوا سبباً في هلاك أمّتنا.. هنا يأتي السؤال: هل سيذكر التاريخ رئيس سوريا الحالي أو رؤسائها السابقين، مثلما نذكر اليوم بحب وشوق وتقدير حلاَّق دمشق؟!.