الأسبوع الماضي، كادت المذيعة الأميركية «تريش ريجان» من قناة «فوكس بيزنس» تتسبب في حادث دولي حينما أشارت إلى الدانمارك باعتبارها مثالاً لفظاعات الاشتراكية، إلى جانب فنزويلا؛ وعقب ذلك، دعاها وزير المالية الدانماركي إلى زيارة بلده من أجل الوقوف على بعض الحقائق. والواقع أن المذيعة اختارت مثالاً غير موفق البتة – أو موفقاً جداً، من وجهة نظر التقدميين الأميركيين. وذلك لأن الدانمارك سلكت مسلكاً مختلفاً جداً عن الولايات المتحدة خلال العقود القليلة الماضية؛ حيث مالت إلى اليسار قليلاً، بينما ملنا نحن إلى اليمين. وهي تبلي بلاء جيداً الآن؟
ففي أميركا، هيمنت على الحياة السياسية حملةٌ ضد «الحكومة الكبيرة» (تدخل أكبر للحكومة الفدرالية)، هذا في حين تبنت الدانمارك دوراً موسعاً للحكومة، حيث يعادل الإنفاقُ العام هناك أكثر من نصف الناتج المحلي الخام. وفي أميركا، يخشى السياسيون التحدث عن إعادة توزيع الدخل من الأغنياء إلى الأقل غنى، هذا في حين تنخرط الدانمارك في عملية إعادة توزيع على صعيد لا يمكن تخيله هنا في الولايات المتحدة. وفي أميركا، باتت السياسات مناوئة للعمالة المنظَّمة على نحو متزايد، حيث كادت النقابات تختفي من القطاع الخاص؛ أما في الدانمارك، فإن ثلثي العمال الدانماركيين منخرطون في نقابات.
الأيديولوجيا المحافظة تقول إنه لا بد أن الاختيارات السياسية الدانماركية كارثية، وأن العشب ينمو في شوارع كوبنهاغن. والواقع أن «تريش» كانت تتحدث عما يعتقد مشغّلوها أنه يجب أن يحدث هناك. غير أنه إذا كانت الدانمارك مكاناً بائساً، فإنها نجحت في إخفاء تلك «الحقيقة»: فقد عدتُ من هناك للتو، والبلاد تبدو في رخاء وازدهار.
والحقيقة هي أن الحياة أفضل بالنسبة لمعظم الدانماركيين، مقارنة مع الحياة بالنسبة للأميركيين. وهناك سبب يفسّر تبوؤ الدانمارك باستمرار مراتب متقدمة في مؤشرات السعادة والرضا عن الحياة، مقارنة مع أميركا.
ولكن هل الدانمارك دولة اشتراكية؟ «معهد كاتو» في واشنطن، وهو مركز أبحاث يدافع عن الحقوق الفردية وتقليص دور الدولة، يقول لا: «إن الدانمارك لديها اقتصاد سوق حر، في ما عدا تحويلات نظام الرفاه الاجتماعي وارتفاع الاستهلاك الحكومي». صحيح أن الدانمارك لا ينطبق عليها التعريف الكلاسيكي للاشتراكية كلياً، والذي يشمل امتلاك الحكومة لوسائل الإنتاج. ذلك أنها في الواقع ديمقراطية اجتماعية: اقتصاد سوق يتم فيه تخفيف سلبيات الرأسمالية بوساطة تدخل الحكومة، بما في ذلك شبكة سلامة اجتماعية قوية جداً.
ولكن المحافظين الأميركيين – مثل مذيعة «فوكس» ريغن – يسعون بشكل دائم وممنهج إلى طمس الاختلاف بين «الديمقراطية الاجتماعية» و«الاشتراكية». ففي 2008، مثلاً، اتهم جون ماكين الرئيس باراك أوباما بالسعي لتبني الاشتراكية، وذلك لأن أوباما دعا إلى توسيع التغطية الصحية. وفي 2012، أعلن المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية ميت رومني أن أوباما يستوحي أفكاره من «الديمقراطيين الاشتراكيين في أوروبا». بعبارة أخرى، إن كل من يريد أن يجعل الحياة في اقتصاد السوق أقل ضرراً وقسوة يكون مصيره، في الخطاب السياسي الأميركي، الاستنكار والتنديد باعتباره اشتراكياً.
بيد أن حملة التشهير هذه لها تأثير يمكن التنبؤ به: فعاجلاً أو آجلًا، سيخلص الكثير من الناس إلى أن الاشتراكية شيء لا بأس به إذا واصل بعض الأشخاص في وصف أي محاولة لتحسين حيوات الأميركيين بـ«الاشتراكية». فقد وجد استطلاع حديث لمؤسسة «غالوب» أن أغلبيتين من الناخبين الشباب وممن يسمون أنفسهم ديمقراطيين تفضلان الاشتراكية على الرأسمالية. ولكن هذا لا يعني أن ملايين الأميركيين يريدون من الحكومة أن تستحوذ على وسائل الإنتاج، وإنما يعني أن الكثير من الناس، حين يُقال لهم إن الرغبة في أن تصبح أميركا أشبه بالدانمارك قليلاً هي اشتراكية، ينتهي بهم الأمر إلى الاعتقاد بأن الاشتراكية ليست أمراً سيئاً في نهاية المطاف. إن الحقيقة هي أن ثمة بؤساً أكثر بكثير في أميركا، مما ينبغي أن يكون، ذلك أن كل البلدان المتقدمة الأخرى لديها رعاية صحية شاملة وشبكة سلامة اجتماعية أقوى بكثير مما لدينا. والحال أن الأمر لا ينبغي أن يكون كذلك.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»