في مسعانا العربي الملّح، حُكومياً ونخبوياً، للتأقلم مع المعطيات الراهنة بناء على ما تفرضه العصرنة من جهة والعولمة من جهة ثانية، نبتعد عن الميراث الشفهي والمكتوب للحكايات الخرافية التي مثّلت لنا مخزوناً معرفياً ومتعة زمنية، وبذلك نَحْمِل أطفالنا إلى المستقبل من دون ذاكرة، ونغرقهم في فضاء المرئي من خلال أفلام الرعب والعنف، والمدهش أننا نتساءل بعد ذلك: كيف أصبح الإرهاب فعلاً ظاهراً، آخذاً في الاتساع رغم الجهود المبذولة لأجل توقيف انتشاره؟.. مع أن أفلام الخيال، خاصة الموجهة للأطفال، تركن إلى التغيير في منظومة القيم، وعلاقات البشر، ومستقبل الوجود البشري على كوكب الأرض، بما سيرفضه الذكاء الاصطناعي من حياة مختلفة عن تلك التي نعيشها اليوم.
هنا نجد أنفسنا مُجْبرين على إعادة النظر في القراءة الواعية للحكايات الخرافية، لأنها تتعلق بالسياسات التربوية والتعليمية، ما يعني ضرورة حضورها لدى صناعة القرار ووَضْع البرامج، وأيضاً عند الاستنجاد بالتاريخ وكائناته المعلومة والمجهولة، بما يمثله ذلك من اختيار حضاري طوعي، أو إجبار يأتي كُرْهاً تفرضه علاقتنا غير السوية مع الآخر لأجل إثبات الوجود العربي لجهة الأقدمية والحضور والمرجعية، وفي هذه الحالة علينا أن نستجد بالباحثين والكتاب في هذا المجال، ومنهم الكاتب الإماراتي المتخصص الدكتور عبد العزيز المسلم ـ رئيس معهد الشارقة للتراث، الذي بَيَّن أهمية الحكايات الخرافية في ندوة بعنوان «الحكايات الشعبية تاريخها وسماتها»، شارك فيها برفقة الباحث البرازيلي «ماركو هاوريليو»، خلال حضور الشارقة ضيف شرف في معرض ساوبالو للكتاب، وأدارتها مروة العرقوبي، رئيس المجلس الإماراتي لكتب اليافعين.
من بين ما جاء في مداخلة عبد العزيز المسلم قوله: «الحكاية الخرافية في هيئتها العامة تدخل ضمن أقسام الأدب الشعبي، أما في صفتها الخاصة ومضمونها، فإنها تأتي ضمن باب المعتقدات الشعبية وصيانة التقاليد، فلكل انحراف خُلقي أو انحلال اجتماعي كان هناك كائن خرافي مُخِيف، مهمته ردع من تجرأ على تجاوز تلك الحدود، والآفات الاجتماعية الكثيرة كـالحسد، والعري، والبغي، والزنا، والسرقة، والخيانة، والجشع، والظلم، والغدر، والحقد.. إلخ، كانت ترسل لها تطعيمات مؤلمة في الصغر تستقر في أقصى الذاكرة، وتساعد كثيراً على التحصن من الاقتراب منها».
ما يثير الإنتباه هنا في حديث «المسلم» ـ وهو ما فهمته في حدود معلوماتي القليلة في هذا المجال ـ هو أننا بعودتنا قراءةً ووعياً للحكايات الخرافية، نعيد إحياء منظومة القيم، ونوفر لها شروط الحماية والاستمرارية، ما يعني أن غياب تلك الحكايات مع عدم وجود بديل لها يكون مُشْبِعاً للرُّوح، سيؤدي إلى هزات كبرى داخل المجتمعات العربية، ومنها: زيادة نسبة الجرائم، خاصة ذات الطابع الأخلاقي، ويُنْهي التراث الإنساني المشترك، ويُفْقِدنا نحن العرب طابع التميز من خلال السرد لحكاياتنا الشعبية ومورثنا القصصي الذي أثر في مبدعي أمم أخرى، ومنهم كُتاب أميركا اللاتينية، على النحو الذي أشار إليه الكاتب البرازيلي ماركو هاوريليو - في الندوة السابقة الذكر- حين تحدث عن أهمية قصص «ألف ليلة وليلة».
من ناحية أخرى، فإن الحديث عن الحكاية الشعبية ـ بما تحمله من مضامين تربويّة وإنسانية، خاصة تلك المتعلقة بقيم الخير، يقودنا إلى ضرورة دراستها وشرحها وتدريسها وتمثيلها، على أن يتم هذا ضمن الصيغ والأساليب الجديدة لتقديم الفرجة والمتعة، وحتى لا تحل مكانها قصصٌ معاصرة أو أخرى مستقبلية تظهر في قصص الخيال العلمي، فإن عودة روايتها داخل الأسرة قد يكون حماية لها من الاندثار، وحماية لنا من «الفردانية» القاتلة، لكل ما كان يَجْمعُنا في أسرنا الممتدة حيث الجدة، والأم، والأخت الكبيرة، جامعات لنا في أيَّام الفصول كلها.
ـ ـ ـ ـ ـ ــ
* كاتب وصحفي جزائري