حرب التجارة ليست جديدة، لكنها لم تكن تسمّى حرباً، بل منافسة تشهد سباقاً إلى تطوير المنتجات لا الأسلحة، وبحثاً محموماً عن المعلومات باستخدام خبرات استخبارية. ورغم أن قواعد العولمة استنبطت مفاهيم جديدة للحدود والسيادة والتشريعات المتعلقة بتدفق السلع، ومنحت الشركات الكبرى امتيازات لتجاوز العوائق الضريبية، وحرّمت على الدول اتّباع الحمائية باعتبارها نقيضاً للحرية والديموقراطية، إلا أنها لم توقف تلك «الحرب» بل قنّنتها لمصلحة حيتان البزنس. لم يمض وقت طويل على دونالد ترامب في البيت الأبيض حتى بدأت نواقيس الإنذار تدقّ، وراح الخبراء ينبّهون إلى أن رجل الأعمال الذي حقّق مكاسب من العولمة صار الرئيس الأميركي الذي يعاديها ويدير أجندة لتفكيكها لا لتصحيحها أو مراجعتها. والأهم أن أميركا رائدة حرية التجارة أصبح لديها رئيس يتبنّى «الحرب التجارية» ويخوضها، وليس ضد الصين وحدها.
لعل الذين اعتبروا «أميركا أولاً» و«أميركا أقوى مجدّداً» مجرد شعارين انتخابيين بديهيين اضطروا لاحقاً للاعتراف بأنهما عنوانان لسياسة يجري تنفيذها خطوةً خطوةً، ثم لإدراك أن الحرب التجارية ليست فكرةً شخصية للرئيس الأميركي. فالوقائع تُظهر أن «مؤسسة الحكم» في الولايات المتحدة لم تُبدِ أي مقاومة لقراراته التجارية ضد الصين، كما تعرقل توجّهاته لإقامة نوع من الوفاق مع روسيا، وكما فرملت تصعيده «النووي» ضد كوريا الشمالية. ولا يعني ذلك سوى أن «المؤسسة» أخذت أيضاً في اعتبارها أن تراجع الاقتصاد الأميركي ليس فقط مجرّد مآخذ «شعبوية» بل يُعزى إلى «فوضى العولمة» التي أتاحت لدول (أوروبا والصين وغيرها) الاستفادة من الانفتاح لتعزيز اقتصاداتها «الوطنية»، كما أدّت إلى هجرة عدد كبير من الشركات الأميركية بحثاً عن أرباح في الخارج. يتلازم مع التراجع الاقتصادي تراجع النفوذ السياسي وفاعليته.
كانت هذه الاعتبارات كامنة وواضحة في خلفية التوجّه الاستراتيجي نحو آسيا لدى إدارة أوباما التي لم تستطع أن تبلور سياسات عملية، وفضّلت إدارة الخلافات الحادة مع الصين بالحوار والمسكّنات، لكنها حاذرت كليّاً إزعاج الحلفاء الأوروبيين. لذلك جاء ترامب جاهزاً ومستعداً لقلب الطاولة على الجميع، وما دام هدفه استنهاض الاقتصاد الداخلي فإن أحداً، لا سيما خصومه والمستفيدين من الوضع السائد، لن يتمكّن من الاعتراض. والمؤكّد أن «مؤسسة الحكم» تجاريه في اندفاعه الى ترويض التغلغلات وإنهاء ما يراه تسيّباً واستنزافاً للموارد. وأصبح واضحاً الآن أنه استطاع أن يبني سياسة تبرّر «حرباً تجارية» مقبولة داخلياً رغم انتقادات تتخوّف من أن هذه الحرب قد ترتدّ ضد أميركا في المديَين المتوسط والطويل، إذ يقول في تغريدته أن التعريفات الجمركية التي فرضها «تعمل بشكل جيد جداً»، وإذا كانت دول العالم لا تريد الخضوع للضرائب الأميركية «فلتصنع منتجاتها في الولايات المتحدة، ما يعني المزيد من الوظائف والثروات لنا». ويضيف أن الرسوم الجمركية «ستمكننا من البدء بسداد دَين هائل بلغ 21 تريليون دولار» ومن «خفض الضرائب على شعبنا».
تمضي «الحرب» سجالاً بين الصين وأميركا على وقع رفع متبادل للرسوم الجمركية بأرقام غير مسبوقة، وفيما لا يزال الأوروبيون يقوّمون خسائرهم في الحديد والصلب والألومينيوم والفولاذ ويحاولون رسم توقّعات لمزيد من الإجراءات الترامبية، جاء تجديد العقوبات على إيران ليتسبّب بخسائر لعشرات الشركات الضخمة بعدما كان العديد من الحكومات الأوروبية بنى الكثير من الآمال على «انفتاح» السوق الإيرانية غداة توقيع الاتفاق النووي قبل ثلاثة أعوام. وإذا لم يطرأ أي متغيّر سياسي قبل نوفمبر المقبل فإن القيود على شراء النفط الإيراني قد تزلزل الأسواق وتذهب بـ «الحرب التجارية»، وفقاً لبعض المحلّلين، في اتجاهات يصعب السيطرة عليها.