أنهى وزراء خارجية منظمة «آسيان» مؤتمرهم السنوي الـ51 في سنغافورة في الرابع من أغسطس الجاري، وسط اهتمام غير مسبوق من قبل وسائل الإعلام والمراقبين لعدة أسباب. فالمؤتمر هو الأول الذي ينعقد بعد قمة العصر بين الرئيسين الأميركي والكوري الشمالي في يونيو المنصرم، وبالتالي كان متوقعاً أن يطغى موضوع نزع السلاح النووي والصاروخي لبيونجيانج على أعمال المؤتمر، خصوصاً في ظل تواجد وزير خارجية كوريا الشمالية «ري يونج هو» للمرة الأولى في مثل هذا الاجتماع الآسيوي الكبير إلى جانب نظيره الأميركي «مايك بومبيو». حيث أكد الأول للمؤتمرين التزام بلاده بما تم الاتفاق عليه في قمة العصر، مبدياً القلق من محاولات جهات داخل الولايات المتحدة «العودة إلى الوضع القديم بعيداً عن عزم رئيسها»، فيما قام الثاني بالضغط على دول آسيان لمواصلة العقوبات على بيونجيانج إلى أن تتخلى عن برامجها النووية والصاروخية كلياً.
العامل الآخر الذي جعل المؤتمر محط اهتمام المراقبين هو أن حضوره لم يقتصر على دول الآسيان العشر فحسب، وإنما حضره أيضاً كل الدول التي ترتبط بمنظومة آسيان بآليات حوار محددة أو متعددة المستويات، ناهيك عن تلك المرشحة للانضمام إليها كدول مراقبة. وهكذا شارك في المؤتمر على مستوى وزراء الخارجية أو مساعديهم كل من أستراليا ونيوزيلندا وكندا والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وإيران وباكستان، إضافة إلى الولايات المتحدة وكوريا الشمالية كما أسلفنا. وفي هذا السياق كان لافتاً مشاركة تركيا للمرة الأولى من خلال وزير خارجيتها «مولود جاويش أوغلو»، بل وقيام الأخير بعقد لقاء مع نظيره الأميركي لبحث علاقات بلديهما الثنائية المضطربة على خلفية رفض أنقرة طلباً من واشنطن بإطلاق سراح القس الأميركي «أندرو برانسون» المحتجز بتهمة ممارسة أنشطة إرهابية، وهو الرفض الذي ردت عليه إدارة الرئيس ترامب بتجميد ممتلكات وأصول وزيري الداخلية والعدل التركيين وإدراج اسميهما في قائمة منتهكي حقوق الإنسان، مع التهديد بفرض عقوبات أخرى. كما كان لافتاً تحركات وزير الخارجية الإيراني «محمد جواد ظريف» الذي حضر هو الآخر المؤتمر وسط غياب عربي كامل، فراح يعقد الاجتماعات مع أطراف عدة بغية كسر العزلة التي تعيشها بلاده، الأمر الذي أثمر عن تأكيد دول مثل الصين ونيوزيلندا وإندونيسيا وماليزيا على تعزيز علاقاتها مع طهران ودعمها للمحافظة على الاتفاق النووي.
راود دول «آسيان» الأمل بالتوصل إلى اتفاقية مع موسكو حول الأمن الإلكتروني (السيبراني) بموجب وثيقة جماعية مسبقة أصدرتها المنظمة التي عانى بعض دولها، ولاسيما سنغافورة، من هجمات إلكترونية مصدرها روسيا. فعلى سبيل المثال، قام قراصنة روس بسرقة معلومات من قاعدة بيانات حكومية خاصة بالحالة الصحية لأكثر من 1.5 مليون من السنغافوريين بمنْ فيهم رئيس الوزراء «لي هسين لونغ». كما كانت هناك قرصنة مماثلة استهدفت قاعدة بيانات البنك المركزي السنغافوري، لولا نجاح السلطات السنغافورية في إحباطها في آخر لحظة. وبطبيعة الحال فإن دولاً أخرى في المنظومة مثل الفلبين وميانمار ولاوس وكمبوديا وفيتنام لا تملك ما تملكه سنغافورة من إمكانيات لإحباط مثل هذه الهجمات الإلكترونية، وبالتالي كان هناك إجماع وتشديد قويين على صياغة مسودة الوثيقة المذكورة وضرورة التوصل إلى اتفاق سريع مع الروس لوضعها موضع التنفيذ. غير أن مثل هذا الاتفاق المقترح لم ينل رداً إيجابياً من وزير الخارجية الروسي المشارك «سيرجي لافروف»، طبقاً لما قاله وزير الخارجية السنغافوري «فيفيان بالا كريشنان».
مفاجأة المؤتمر تمثلت في إصدار وثيقة تختص بالعمل والتعاون مع الصين التي تراها بعض دول المنظومة قوة تسعى للهيمنة في بحر الصين الجنوبي، خصوصاً في ظل النزاع القائم بين الصين وكل من الفلبين وفيتنام وإندونيسيا وماليزيا وبروناي حول السيادة على مجموعة من الجزر الصغيرة والشعب المرجانية.
الوثيقة التي صدرت عن المؤتمر كانت عبارة عن مدونة سلوك في بحر الصيني الجنوبي هدفها النهائي هو إبرام اتفاق مع الصين، تلتزم فيه الأخيرة التعاون مع دول «آسيان» التي تنازعها السيادة على الجزر في أعمال الكشف عن الثروات المعدنية واستغلالها جماعياً، بدلاً من قيام بكين بمفردها في إقامة منشآت عسكرية ومدنية فوق الجزر وتغيير معالمها من جانب واحد. غير أن هذا الأمر يبقى من ضمن الأماني، خصوصاً إذا علمنا أن الصين ماضية في خططها دون إبداء أي قدر من الليونة، بدليل رفضها تنفيذ حكم محكمة العدل الدولية في 2016 والذي جاء في غير صالحها، واستمرارها في بسط سيادتها على الجزر ومواصلة عسكرتها واستغلال مواردها.
صحيح أن ما صدر عن اجتماع سنغافورة اعتبره وزير الخارجية السنغافوري إنجازاً كبيراً، كما اعتبره وزير الخارجية الصيني تقدماً مهماً وأنباء سارة، داعياً دول آسيان لإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع الجيش الأحمر الصيني في مياه بحر الصين الجنوبي، شريطة عدم مشاركة دول من خارج المنطقة. إلا أن العبرة بالأفعال التي تصدر من جانب بكين، وليس بالبيانات والأقوال. وأفعال الصين ثبت عدم تماشيها مع آمال وطموحات خصومها الآسيويين، بل حتى لو تفاءلنا فإن الصين لن تنفذ المطلوب منها فوراً. بمعنى أنها ستماطل إلى أقصى حد وتستنفد كل ما لديها من أدوات الضغط على جاراتها الأسيويات الأقل قوة وخصوصاً فيتنام التي تكن لها العداء المرير، والفلبين التي اشتكتها لمحكمة العدل الدولية، وإندونيسيا التي هددت بحماية مصالحها الوطنية في وجه التغول الصيني في المنطقة.