ما أقسى أن تخسر كل شيء تقريباً، وتتبخر أحلامك، وبالكاد تنجو بحياتك وأسرتك، دون أن تحقق أي هدف! ما أصعب أن تكون مذلاً مهاناً عاجزاً، وسط نظرات أهلك وأولادك الصغار، لا تجرؤ على النظر في عيونهم. ما أمرُّ أن تهرب من «درعا» ومن براميل الموت ومن القصف الذي لا يرحم، لتحتمي بحدود دولة ضاقت باللاجئين والهاربين من قبلك، ثم تضطر لأن تعود مرغماً إلى مدينتك المدمرة وبيتك المنهوب.
هكذا اليوم جنوب سوريا، وما كل شمالها أحسن حالاً، بعد أن دُمرت أحلام شعبها بين قمع نظام لا يرحم، ومغامرات جماعات الإسلام السياسي الإرهابية من «قاعدة» و«داعش» و«جهادية» سلفية، وأذرع «الإخوان» و«حزب الله» وميليشيات شيعية وسُنية عاثت في العراق وسوريا فساداً ودماراً.
في أرض قاحلة وتحت حرارة الشمس، يقول أحد التقارير الصحيفة: «ينهمك رجال ونساء في وضع شوادر بيضاء اللون فوق قضبان حديدية لتصب خيماً تؤويهم وأطفالهم بعدما فروا مسرعين على وقع التصعيد العسكري في جنوب سوريا».
بعد أيام من القصف العنيف، تضيف: «لم يجد الآلاف في قرى وبلدات ريف درعا الشرقي والشمالي خياراً أمامهم سوى الفرار، تركوا خلفهم منازلهم وتنقلوا في مناطق أكثر أمناً تحت سيطرة الفصائل المعارضة. ووجد بعضهم ملجأ في مخيم جديد للنازحين في قرية بريقة في جنوب محافظة القنيطرة، رغم أنه يفتقد إلى أدنى الخدمات الأساسية».
السوري «فارس الصلخدي» (58 عاماً)، وصل وعائلته قبل ثلاثة أيام إلى المخيم الجديد هارباً من مدينته «إنخل» في ريف درعا الشمالي.. ويقول: «القصف كان عشوائياً، أتينا إلى هنا على متن دراجة نارية، وحملت أغراضي معي، لكن لا توجد مقومات حياة، لا مياه ولا مراحيض ولا أكل». وينهمك أحد الرجال في البحث عن حجارة كبيرة بمساعدة بعض الأطفال، يضعونها جنباً إلى جنب لتتحول إلى أرضية للخيمة.
والهدف منها منع خروج الأفاعي، والعقارب من التراب في مكان سيتحول إلى منزل لهم خلال الفترة المقبلة.
في لقاء أجراه الإعلامي «سمير العيطة»، رئيس تحرير «لوموند دبلوماتيك»، النشرة العربية، مع جمع من الشباب والشابات، في الأجواء الاحتفالية بمناسبة اختيار دمشق عاصمة الثقافة العربية لسنة 2008، بعد أن اختيرت حلب قبل عام عاصمة للثقافة الإسلامية. يلف النقاش جو من الحزن، يقول «العيطة»، ما انطباع السوريين يومذاك عن بلادهم ومستقبلهم؟ قالوا: «البلاد تتغير بسرعة، لكن ليس كما كنا نحلم به. لا بأس.. ذاك أن ما لا نريده على الأخص هو حالة جنونية مثل العراق، ولا حتى حالة فوضى كما في لبنان. كل شيء ما عدا هذا وذاك، لكننا لا نعرف اليوم ما الذي يخبئه لنا المستقبل، مع قصة التحقيق الدولي والمحكمة الخاصة باغتيال رفيق الحريري».
شارك الأستاذ «العيطة» السوريين مخاوفهم ويأسهم وقال: «هذا الجيل الجديد من الشبيبة السورية لا يحلم سوى بشيء واحد: الرحيل إلى مكان آخر. فليس هناك ما يكفي من فرص العمل لهم جميعاً». وأضاف: «فقط أولئك الذين تمكنوا من السفر والقيام بتجربة في الخارج، في دول الخليج، أو على الأخص في أميركا أو أوروبا، يحصلون اليوم على رواتب لائقة، بل مرتفعة في المصارف الخاصة أو سائر الشركات «القابضة» التي تشهد نشاطاً واضحاً. والحال أن المعيشة أصبحت غالية والسلع الحديثة في متناول اليد، مثل الهاتف الخلوي وثياب الماركات العالمية والسيارات من مختلف الموديلات.
لكن الأكل والشرب أصبحا قبل ذلك مكلفين، وسيزداد الأمر سوءاً مع إلغاء الدعم عن المازوت وسائر المواد الضرورية. أما المسكن فقد أصبحت أسعاره تعجيزية».
كانت هجرة العراقيين إلى سوريا يومذاك هي المشكلة وهي المسؤولة عن غلاء الشقق والخدمات، «بل لم يعد هناك قانون إيجارات منظم».
بعض الشباب اعتبر الحكومة كذلك بسياساتها مسؤولة عن الأوضاع. فقد انطلقت في عملية تحرير اقتصادي منفلتة: «فهذه وزيرة العمل، المفترض أنها بعثية واشتراكية، تقول إن قانون العمل الجديد الذي سوف يحرر سوق العمل، بحيث يكون عقد العمل اتفاقاً حراً -شريعة المتعاقدين- من دون أي تدخل من الحكومة. حتى جورج بوش ليس ليبرالياً إلى هذه الدرجة. لا يمكننا أن نتوقف عن استقبال العراقيين، تماماً كما فعلنا لدى استقبالنا ومساعدتنا شيعة جنوب لبنان خلال حرب صيف العام 2006».
من يتابع مجريات الأمور في سوريا اليوم، كتب الباحث السوري رضوان زيادة في الصيف الماضي، «يشعر في كل مرة بأن الكارثة السورية وصلت إلى أقصى القاع، لكنه يكتشف أن القاع ذاته لم يعد له قاع، وأن حقائق جديدة باتت تتشكل على الأرض». ويدرس الكاتب الفلسطيني «ماجد كيالي» سمات النظام السوري، ويلاحظ «أن لديه علاقات متميزة مع الاتحاد السوفييتي ثم روسيا، لكنه كان ينسجم أو يتكيف مع استراتيجيات الإدارات الأميركية المتعاقبة، بدءاً من موقفه في أحداث أيلول في الأردن 1970، ثم دخوله لبنان 1976، وصولاً إلى مشاركته في حرب الخليج الثانية في حفر الباطن ولو رمزياً 1991، وانخراطه في مؤتمر مدريد للسلام 1991، وفي المفاوضات مع إسرائيل في التسعينات»، ويضيف «كيالي» أن النظام يعتبر نفسه ثورياً وتقدمياً لكنه دخل في خصومة مع الأنظمة المماثلة «في حين أن أكثر العلاقات ديمومة وعمقاً، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، كانت مع الدول الخليجية». هذا عن سوريا الوطن، وسنرى كذلك بعض ملامح سوريا المهجر والمنفى!
*كاتب ومفكر- الكويت