قبل ما يزيد قليلاً عن عقدين، حين أعلن عمران خان، لاعب الكريكيت الباكستاني الشهير، أنه سيخوض غمار السياسة كي يخلص بلاده من الفساد المتفشي، سخر الناس منه ولم يحصل إلا على القليل من الدعم السياسي. ورغم أنه كان في عيون الشباب الباكستاني أيقونة وبطلاً استطاع أن يحصد الجوائز للبلد المسلم، لكن «خان» وحزبه المعروف باسمة «حركة العدل» فشلا في تحقيق أي انتصار ملموس في السياسة الباكستانية في انتخابات متعاقبة.
ورغم الهزائم الثقيلة المتوالية، ظل «خان» مصراً على تحقيق هدفه كما فعل أيام كان لاعباً. ومثابرته أتت أوكلها أخيراً بخروجه منتصراً في الانتخابات الباكستانية العامة هذا العام، وهو أمر جدير بالملاحظة مع الانتقال السلمي من حكومة مدنية إلى حكومة مدنية أخرى. فقد استطاع «الكابتن»، كما يطلق على عمران خان، أن ينقل حزبه «حركة العدل» من الهامش السياسي إلى قلب المعترك السياسي ويحقق نتائج جيدة على امتداد البلاد رغم مزاعم خصومه السياسيين بشأن تدخل الجيش في العملية الانتخابية.
وانتصار خان يعني أن باكستان أصبح بها الآن قوة سياسية ثالثة يحسب لها حساب إلى جانب الحزبين الراسخين، وهما «حزب الرابطة الإسلامية الباكستاني» و«حزب الشعب الباكستاني» اللذان سيطرا على السياسة الباكستانية وأصبحا يشكلان الحكومات المدنية بالتبادل. ورغم أن حزب خان ينقصه عدد صغير من المقاعد ليحظى بالأغلبية في البرلمان لكن من المتوقع أن يحصل على دعم من الفائزين المستقلين ليشكل الحكومة التالية في باكستان.
وجرت الانتخابات في أجواء خيم عليها اعتقال رئيس الوزراء السابق نواز شريف وابنته بناء على اتهامات بالفساد، لكن من الواضح أن هذه الانتخابات لها تأثير سيستمر على السياسة الباكستانية. وصحيح أن خان لم يبعد تماماً قبضة الحزبين الرئيسيين عن الحياة السياسية في باكستان لكن انتصاره يمثل بالتأكيد درساً في المثابرة لأنه لم يتخل قط عن طموحه في الوصول إلى مكانة رفيعة في بلاده. وجاء خان إلى السلطة ببعض الدعم من الجيش الباكستاني الذي يتمتع بنفوذ كبير في باكستان ويعتبر مؤسسة السلطة الفعلية في البلاد. ودأب الجيش الذي يسيطر على مجالات مثل السياسة الخارجية على احتواء الحكومات المدنية في باكستان.
والنضج الذي تجلى في الناخبين الباكستانيين من أبرز نتائج هذه الانتخابات. فالهزيمة المزرية للمتطرفين الإسلاميين المتعصبين والأحزاب الإسلامية المتطرفة وفشلها في الحصول على مقعد واحد فقط في البرلمان توضح بجلاء أن التطرف الديني يرفضه الشعب الباكستاني تماماً وتوضح السأم من العنف والتطرف في باكستان. ومما لا شك فيه أن خان استأثر بخيال الجمهور الباكستاني المتعطش للتغيير. فبعد 22 عاماً من النبذ في عالم السياسية، لمست دعوته إلى مكافحة الفساد الذي حام حول الحكومات المدنية السابقة ووعوده ببناء باكستان جديدة وتراً حساساً لدى الناخبين الباكستانيين.
وبعد أن اتضح فوز حزب خان بمعظم المقاعد، أظهر لاعب الكريكيت المخضرم السابق نُضجاً سياسياً في كلمة أذاعها التليفزيون تناول فيها باقتضاب قائمة أولوياته تجاه العلاقات مع الدول المجاورة وإصلاحاته الاقتصادية الداخلية وتصوره عن بناء باكستان جديدة. وفيما يتعلق بالعلاقات مع الهند وعد خان أنه إذا تقدمت الهند خطوة واحدة على طريق تحسين العلاقات، فإن باكستان تحت قيادته ستتقدم على الطريق خطوتين مؤكداً على الحاجة إلى تدشين عملية سلام وعلاقات تجارية بين البلدين. أما فيما يتعلق بالصين، وهي حليف باكستان في السراء والضراء، فقد أشاد خان بـ «مشروع الممر الاقتصادي الباكستاني الصيني» وأشار إلى فرص الاستثمارات بمليارات الدولارات في باكستان.
أما فيما يتعلق بأفغانستان وهي بلد يشترك مع باكستان في روابط اجتماعية وتاريخية لكنه في الآونة الأخيرة اتهم جارته بانها تأوي جماعات إرهابية، مد «خان» يده بالمصافحة لإصلاح العلاقات داعياً إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات لفحص القضايا. ووصف العلاقات مع الولايات المتحدة بأنها «من جانب واحد»، وأنه حتى الآن تعتقد واشنطن أنها تقدم المساعدة لباكستان كي يخوض البلد المسلم الحرب نيابة عن الولايات المتحدة لكنه يفضل علاقة متوازنة يستفيد منها الجانبان. وأقر «خان» بالدعم الذي قدمته المملكة العربية السعودية لباكستان وأكد أن المملكة صديق وقف إلى جانب باكستان في أوقات الشدة. وركزت خطبة عمران خان بعد فوزه في الأساس على الاقتصاد المتدهور للبلاد والفقر. ووعد بإقرار نظام ضريبي شفاف وتعهد أن يرفع ملايين الباكستانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
لكن الحقيقة تظل هي أن أمام «خان» مهمة شاقة. فاقتصاد باكستان يشهد حالة ركود ويتعين على الحكومة المقبلة أن تخاطب صندوق النقد الدولي للحصول على قروض إنقاذ. وشهد الاقتصاد ثلاث عمليات لخفض قيمة العملة منذ ديسمبر وليس لدى البلاد أي احتياطي من العملة الأجنبية. والجميع يراقبون كي يروا السياسات الاقتصادية التي سيتبعها «خان» لإنقاذ الاقتصاد بعد أن يشكل حكومة. وتوقعات الناخبين من «خان» مرتفعة، لكن مازال السؤال الأساسي يتعلق بإذا ما كان سيستطيع تحقيق كل وعوده أم أن المؤسسة العسكرية صاحبة النفوذ ستواصل إملاءاتها خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الهند وأفغانستان.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية في نيودلهي.