«كل ما يمكن تخيّله حقيقي». قال ذلك الفنان «بيكاسو»، وليس في الدنيا خيال يتحقق مثل «تموز» وهو اسم شهر «يوليو» في العراق والمشرق العربي. وأبكاني خيال بضع عشرات من عراقيين مغتربين يُشَيعون «الرفيقة» و«الحبيبة» و«الأم» «نضال وصفي طاهر» إلى مثواها المكلل بالزهور في مقبرة «إنجريد» في مدينة «يوتوبوري» بالسويد أقصى شمال الكرة الأرضية. غادَرَتْ «نضال» الحياة فجأة منتصف «تموز»، الشهر الذي ولد فيه عام 1918 أبوها العقيد وصفي طاهر، أحد أبرز قادة ثورة «14 تموز» عام 1958. آنذاك اقترب العراقيون أكثر من أي وقت في تاريخهم إلى «بلاد ما بين النهرين»، حيث استوحوا رسم الشمس السومرية رمزاً للجمهورية، وأطلقوا العنان لأحلامهم في بناء جمهورية مستقلة عن الشرق والغرب، ومالكة لثرواتها النفطية، وينعم مواطنوها بالمساواة أمام القانون. «قانون الأحوال الشخصية» الذي صدر في العام التالي للثورة في 94 مادة يعكس مستوى متقدماً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً على الزمن الحالي.
وفي العراق، الأول في كل شيء، ولدت أولى الحضارات في التاريخ، وأقيمت أول المدن، وأول المدارس، وأول مجلسين تشريعيين، وأول شريعة قانونية، وأول أدوية صيدلانية، وأول تقويم زراعي. يذكر تفاصيل ذلك كتاب «التاريخ يبدأ في سومر» ومؤلفه «صاموئيل نوح كريمر» وهو أحد أبرز علماء الآثار في القرن الماضي، يوردُ اقتباسات مدونة في الألواح الطينية. وتدهشنا الروح الوطنية والفخر بالانتماء في فصل «أول فلسفة كونية وفلكية» التي ترسم صورة الكون ومكان «سومر» فيه: «آه يا سومر أيتها الأرض العظيمة، يا ذراع الكون الراسخة بالضوء، المنتشر من شروق الشمس حتى غروبها، قوانينك المقدسة سامية على جميع الناس، وقلبك عميق لا يُسبر غوره، والتعليم الحق الذي جلبتيه كالسماء لا يُمّس».
و«تموز» «إله المراعي» وزوجته «إنانا» وتُسمى أيضاً «عشتار» أول «آلهات الحب»، وقصة حياتهما الزوجية ملحمة بالغة التعقيد، يختلط فيها التاريخ البشري وتاريخ الطبيعة. تقاعسُ «تموز» عن رثاء زوجته عندما انتقلت إلى العالم السفلي جعلها تحكم عليه بقضاء حياته في العالم السفلي، لكن قلب الزوجة المُحبة رحيم، فاستعطفت عائلتها التي تضمُ كبار آلهة الكون فاستبدلوا العقوبة بقضاء نصف عام في العالم السفلي، ونصف فوق الأرض. وهكذا ولدت الفصول، و«تموز» شهر الحصاد وفيه، تتكرر حتى اليوم أساطير وفاة «تموز» بتسميات أخرى، حيث المناحات الدينية العامة تقطع مسافات شاسعة مشياً على الأقدام. وقال لي عالم الآثار العراقي الراحل «محمد علي مصطفى» تحت كل ضريح ديني يؤمه العراقيون ضريح يعود زمنه إلى عصور سومر وبابل.
وكما لو قامت من ضريح «تموز» مظاهرات البصرة، وامتدّت عبر مدن الجنوب إلى كربلاء، والنجف، وواسط، والحلة حتى بغداد. ويستحيل معرفة ما إذا كانت الأحداث الحالية تستأنف «ثورة تموز». «فنحن نحتاج التاريخ بكامله، لا لنرتمي فيه بل لنرى ما إذا كان بالإمكان الهرب منه»، قال ذلك الفيلسوف الإسباني «خوزيه غارسيا غاسيت» في كتابه «ثورة الجماهير».
«والآن ما بإمكاني فعله، وماذا سيحدث في حياتي، وكل هؤلاء الناس الذين لا يهتمون بشأني، والآن برحيلكِ، كل تلك الليالي، لماذا ولمن؟». بهذه الأبيات للمغني الشاعر الفرنسي «غلبرت بيكاود» نَعَت «ساره الحسني» خالتها «نضال وصفي طاهر». و«سارة» الجزائرية من ناحية أبيها، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، لم تذرف دمعة واحدة، وهي تتلو القصيدة كمُسّارة شخصية بالفرنسية ثم بالإنجليزية: «سيكون صباحي دائماً من دون أيّ معنى، وذلك القلب الذي يخفق لمن ولماذا، يخفق بسرعة وبسرعة، ونحو أي منعطف حياتي ستنزلق؟ لقد تركتِ لي الحياة بأكملها، ولكن الحياة صغيرة جدا بدونك، أصدقائي كونوا لطفاء، أنتم تعلمون انه ليس بمقدورنا فعل أي شيء».