كيف سيبدو اضمحلال أميركا؟ لا أسأل هذا السؤال لأنني أتصور أنه يحدث الآن، ولكن لأنه حتى أكثر المتفائلين حماسة لابد وأن يهتم بمعرفة المخاطر المحدقة، على الأقل، لتفاديها.
وأقدم في السطور التالية الرواية المجردة من وجهة نظري، للاضمحلال المفترض للإمبراطورية الأميركية، بعيداً عن السيناريوهات الحزبية أو الهيستيرية، أو تلك التي تنطوي على أحداث كارثية لأسباب غيبية.
فلنتخيل أن الولايات المتحدة تجاوزت رئاسة دونالد ترامب من دون أزمة دستورية معطلة، سيظل ضجيج النقاشات العامة، التي ستستمر بعد انتهاء فترة ترامب في المنصب، ليبرهن على الظلم الذي تتعرض له مهمة مواجهة أكثر المشكلات الضاغطة التي تواجه أميركا.
وخلال السنوات القليلة الماضية، بلغت المعدلات الأساسية لنمو الإنتاج نحو واحد في المئة فقط، كما أن معدلات النمو الاقتصادي لم تتجاوز نصف ما كانت عليه في الحقب الماضية. وفي هذه الأثناء، سيتعين على واشنطن زيادة الضرائب أو تقليص الإنفاق بنحو 2.200 دولار لكل دافع ضرائب سنوياً للحيلولة دون ارتفاع معدلات الدين القومي إلى إجمالي الناتج المحلي إلى مستويات أعلى، ويسبق هذا الرقم التخفيضات الضريبية التي طبقها ترامب. ولتمويل العجز، سيتعين على أميركا تقليص تكاليف صيانة البنية التحتية. وعندئذ سينتهي المآل بثلث الدولة على الأقل ليبدو مثل «مكب للنفايات». ورغم ذلك، لن تتقلص فجوة الثروة بين البيض والسود والعرقيات الأخرى.
وسيجبر كل من التقدم في العمر ونقص المخصصات أي رئيس، «ديمقراطيا» كان أم «جمهورياً»، على البحث عن مزيج من خفض الإنفاق وزيادة الضرائب. ويعني خفض الإنفاق تقليص نطاق الجيش وقدراته، وستضمن الزيادات الضريبية تقييد النمو الاقتصادي. وغالباً، سيتم الحفاظ على سلامة برنامجي «ميدكير» والضمان الاجتماعي، لكن الولايات المتحدة ستخسر قدرتها على استعراض قوتها في أرجاء العالم.
وفي غضون فترة تقل عن خمسة أعوام، ستستعيد الصين تايوان، وستجذب معظم دول شرق وجنوب شرق آسيا إلى مدارها. وستصنع بعض دول الشرق الأوسط أسلحة نووية، وتصبح قوى مهيمنة في المنطقة. وستواصل روسيا إسقاط حدود الدول المجاورة، لاسيما لاتفيا وإستونيا، وسيخسر «الناتو» مصداقيته، باستثناء بعض العلاقات الثنائية، كالعلاقات مع بريطانيا، بينما سترتد أوروبا الشرقية إلى شبح الفاشية. وستبقى اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا» على الورق، لكنها ستخضع دوماً لإعادة التفاوض مع توتر العلاقات في نصف الكرة الأرضية.
ومن المجالات التي ستشهد تطوراً تكنولوجيا صناعة العقاقير، ولا أقصد بذلك العقاقير الدوائية النافعة. ورغم أن أزمة تعاطي المخدرات الأفيونية ستنحسر في نهاية المطاف، ستظهر موجات جديدة من المخدرات القوية. وسيؤدي الإنتاج في المعامل المحلية إلى جعل التهريب غير مجد للعصابات الإجرامية. وفي حين يقدر حالياً عدد الوفيات من تعاطي الكحوليات في أميركا بنحو 80 ألفاً سنوياً، إضافة إلى أكثر من 60 ألفاً يموتون بسبب جرعات المخدرات الزائدة، سيرتفع إجمالي خسائر الأرواح نتيجة الإدمان.
وستزدهر صناعات تكنولوجية أخرى، لكن لن تكون جميعها إيجابية. وسيؤدي الذكاء الاصطناعي والمراقبة ببصمتي الوجه والمشي إلى انتشار غير مسبوق لأنشطة القرصنة، مسببة رحيل 1 أو 2 في المئة آخرين من الأميركيين عن الشبكة العنكبوتية. وسيتقلص تأثير الطائرات من دون طيار القاتلة، بإغراق السموات بطائرات من دون طيار شرطية. وستتقلص الجرائم العامة، لكن الأماكن العامة في المدن الكبرى سيعتريها تشابه يدعو إلى الاكتئاب، بسبب الغياب شبه الكامل للسلوكيات العفوية. والتقدم في تكنولوجيا التسجيل سيجعل معظم المحادثات علانية، وكثير من الأمور الخاصة، ستجد سبيلها إلى العامة.
وستصبح السيارات ذاتية القيادة «الحدث الأبرز»، لكنها ستجعل الطرق أكثر ازدحاماً. وسيقضي الأميركيون ساعة أخرى في سياراتهم، ليس في القيادة ولكن لتبادل رسائل نصية أو مشاهدة التلفاز.
ولن تتحقق أسوأ المخاوف بشأن التغير المناخي، لكن التعاقب المزعج للعواصف، والتعديلات المطلوبة على طول الشواطئ لتلائم الارتفاع في مستوى سطح البحر، ستلتهم زهاء نصف في المئة من النمو الاقتصادي، لذا، عندما تحقق أميركا نمواً اقتصادياً نسبته ثلاثة في المئة من حين إلى آخر، فمن حيث مستويات المعيشة سيبدو مثل اثنين في المئة فقط.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»