اتضح أن التراكم الذي تحقق نسبياً مرات عدة في العالم العربي، منذ القرن التاسع والعشرين، لم يُأخذ بمداه التاريخي للتأسيس لأي مشروع يكون «خاتمة الأحزان» و«بداية للتأسيس» لمشروع وطني هنا وهناك بصيغة «التأسيس لمشروع قومي» يضم الأقطار العربية أو المحتمل منها. لقد حدث ذلك مرات متعددة وفي أكثر من حالتين اثنتين على الأقل، فمعظم الحالات التي حدثت على هذا الصعيد تم إحداثها، دون رؤية تاريخية ناضجة وعلى نحو تم تفكيكها وإسقاطها بفعل مجموعة من العوامل داخل الأقطار العربية نفسها من طرف، وبفعل الأحداث التي جاءت كردود أفعال من الخارج والداخل العربي نفسه من طرف آخر.
لقد حدث ذلك في كل المحاولات الاندماجية والتقربية التي حدثت بين أقطار عربية، والأمر وصل إلى درجة التدخل في محاولات التوحيد والتقريب بين بلدان عربية عملت قياداتها على هذا الاتجاه. لقد كانت التجربة النموذجية هي التي غرقت في أوحال الصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية، والطائفية أحياناً. في هذا الحقل: حدّث ولا حرج! ففي التجربة التوحيدية بين سوريا ومصر الناصرية، مثلاً، كان أحد الشروط التي تمسكت بها مصر الناصرية حيال دعوة السوريين للوحدة مع «الشقيقة الكبرى» أن تُنجز عملية حاسمة في سوريا كأحد الشروط الحاسمة لمشروع التوحيد، هو أن تُحل الأحزاب السياسية في «البلد الشقيق» مع سوريا. وكان ذلك: لقد ألغيت أو مُنعت في هذا البلد الأخير، خطوة بخطوة «مع أحزاب مصر». لقد مُنعت الأحزاب السورية رسمياً، دون أن يستجيب إلى ذلك مسؤولو مصر في حينه، وعلى رأسهم الرئيس عبدالناصر، وبهذه الخطوة الافتراضية تم لجم المجتمع السياسي ومنعه في سوريا، لكن في مصر ظل الاتحاد الاشتراكي، حزب السلطة هناك، قائماً من الناحية العملية، وقُضي على التعبير السياسي في مصر، دون تماثل الوضع السوري معه تماماً.
وبذلك، مُنعت الأحزاب في مصر ثم في سوريا، دون أن ينتهي ذلك إلى «صنع» المجتمع المدني والآخر السياسي رسمياً، ولكن ضُيق عليها. ذلك كان مثالاً قاسياً وفظاً في العالم العربي. وجاءت مرحلة التضييق على من تابع سيره في البلدين، حتى حدث انفصال بين سوريا ومصر. لقد كانت المرحلة التالية قاسية على البلدين، ما سهّل عمليات تضييق على كل من انتقد ضمن الحالتين في البلدين في سوريا ومصر. وكان ذلك مناسبة ذهبية للتدخل الأجنبي في البلدين الذين انفتحت أبواب التدخل الأجنبي فيهما، وبالطبع، فإن ذلك انعكس عموماً في بقية البلدان العربية، فقاد إلى عملية مفتوحة من الانقلابات العسكرية، يداً بيد مع عمليات النكوص والاضطراب في بلدان عربية، حتى وصلنا إلى المرحلة التالية، وهي تلك التي نعيشها راهناً في البدايات النسبية زمانياً: في مصر ولبنان وسوريا واليمن وليبيا والعراق إلخ، ونعني من ذلك الحروب الأهلية بين بلدان عربية، وبين أخرى بحمايات أجنبية، كانت مناسبة لتدخلها في هذا القطر العربي أو ذاك، مع ديمومة الحروب الداخلية، التي قامت بعمق وعلى امتداد سنوات طويلة بإنتاج أسئلة نارية مشتعلة وبكيفية راحت تفرض أسئلتها على الأمة كلها. ها هنا، تذكّر العرب أنهم ينتمون إلى قومية واحدة، هي العربية.
لقد أخذنا نسجل كثيراً من الملاحظات على ما بدأ قبل عقد ونيف من السنين. أول هذه الملاحظات لها خطورة فظيعة في مستقبل (الوطن العربي)، حيث نشأ نمط من الحروب في المنطقة العربية: إنها الحروب الأهلية التدميرية والتي تتسم برؤية تفكيكية وتدميرية، مشوبة بفيض من الرغبة في الخراب والتأسيس لوطن عربي حُطام، رحنا نواجهه على شاشات التلفزة. فكأن عدو الوطن والشعب العربي قد أصبح ديدنه تفكيك العالم العربي إلى طوائف وأعراق وأجناس وأديان مختلفة متصارعة. وراح الجميع أو معظمهم يعلنون استقواءهم بانتمائهم الطائفي الذي أظهر أن القتال بين الجميع ضد الجميع كأنما هو المرحلة الأخيرة من التاريخ.

*أستاذ الفلسفة- جامعة دمشق