يبدو أن السؤال الذي طرحه العرب على التاريخ منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، لم يلق صدى عندهم، أو لنقل: ما زال مطروحاً بشكل من الخجل والتستر وراء شعارات وأعذار مستهلكة، من نمط: لقد عملنا ما كان علينا عمله، لقد عملنا الكثير، ولم ننجح في تحقيق النتائج المرجوة، وفوجئنا بوجود مؤامرة كونية صاغها وطوّرها أعداؤنا في الخارج، بمساعدة العملاء والخونة في الداخل، الخونة الذين باعوا أنفسهم لإسرائيل وغيرها من الجهات الأخرى! في هذه الكوميديا السوداء، نذكّر بما قاله الكاتب «أندريه جيد» لمترجم كتابه «الباب الضيق»، إلى اللغة العربية، وهو «نزيه الحكيم» الذي أُسندت له الترجمة بناءً على إشارة وتزكية من طه حسين. قال أندريه جيد: «يدهشني اقتراحك ترجمة كتبي إلى لغتكم! إلى أي قارئ يمكن أن تُساق؟ وأي الرغبات يمكن أن تلبّي؟ فواحدة من الخصائص الجوهرية في عالم المسلمين، أنه يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من المسائل.. أمخطئ أنا؟». والطريف أن طه حسين أجاب عن سؤال الكاتب الفرنسي، بالقول: «سيدي، لم تخطئ، وإنما دُفعت إلى الخطأ». وقد تُرجم الكتاب المذكور عام 1946، وصدر عن دار الكاتب المصري. وفي ضوء استعادة معمقة للفكر العربي في تاريخيته، نقول إن الأديبين الكبيرين كليهما، أندريه جيد وطه حسين، مُحقّان فيما صرّحا به، لكن بمحدودية، فالأول محق إذا وُضع كلامه في السياق التاريخي الذي يظهر أن الفكر العربي الإسلامي أفصح -في عدد من تجلياته ومراحله- عن قصور عميق في بنيته ووظائفه، لكن هذا نفسه ظل نسبياً، أي مشروطاً بالمعطيات والتغيرات التاريخية التي طرأت عليه. أما قول طه حسين فيتصل بالمسألة في أساسها، أي بالتأكيد على أن الفكر العربي، كأي فكر آخر، ليس من طبيعته أن يكون قاصراً ومتخلفاً، ولكن إذا تكاثرت الاختراقات من الداخل والخارج، فإنه قد يبدو كذلك، وهنا تبرز أهمية البحث التاريخي المشخّص لتفكيك ذلك الوهم المحتمل. إن غياب الأسئلة المتوهجة عن الفكر العربي الراهن إنما هو بمقتضى ذلك، أمر لا يمتلك شمولية تنسحب على كل أنساقه وبنيته وتجلياته ومراحله، هكذا دون تبصّر واقعي وتاريخي مشخص. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن حضور الأسئلة في فكر ما لا يمثل ظاهرة إيجابية على الدوام، لأن منها ما يمكن أن يكون زائفاً أو ملفّقاً أو غير مستكمل لشرائط الاتساق المنطقي والمطابقة النسبية مع الواقع. وإذا كان قد انقضى على صدور كتاب «أندريه جيد» بالعربية ما يقارب ثمانية عقود، دون أن يحدث تحول عميق في الفكر العربي، فإن هذا نفسه لا يمكن النظر إليه بمثابة دليل قطعي على مقولة الكاتب المشار إليها. وحيث يكون الأمر على هذا النحو، فإننا نكون قد جانبنا الخطأ الخطير المتمثل في الاعتقاد بأن الفكر العربي (ومعه الإنسان والمجتمعات العربية) مكتوب عليه أن يبقى خارج التاريخ المتدفق بحيوية، ومن ثم خارج الإنتاج المعرفي المتقدم.