من الواضح الآن أن الخطة الأصلية لكثير من مبادرات السياسة الخارجية التي أعلنتها الإدارة الأميركية الحالية في بداية العام الماضي 2017، لم يعد من الممكن التعرف عليها بشكل واضح ومحدد الملامح، فقد أُهملت أو تم تأجيلها أو تغييرها على نحو من الأنحاء. ولعله من أبرز الأمثلة الجلية في هذا السياق على إخفاق الإدارة الأميركية الحالية، هو فكرة المبادرة المتعلقة ببناء سياج حدودي بين الولايات المتحدة وجارتها المكسيك، على أن يدفع المكسيكيون تكاليفه بالكامل، وهو الأمر يبدو أنه تعذّر واتضحت استحالته في نهاية المطاف، لأن المكسيك لم تقبل به مطلقاً، ولأن كثيراً من الأراضي التي تفصل البلدين ملكية خاصة وليست فيدرالية، ومالكوها من الخواص الأميركيين ليس لديهم الحماس الكافي للتخلي عن أراضيهم بسهولة، سواء أكان ذلك لحكومة فيدرالية أو حكومة محلية، من دون الخوض لوقت طويل في معارك قضائية قد لا تنتهي في الأجل المنظور. وحتى تنفيذ وعد الرئيس ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس لم يتجاوز كونه مسألة رمزية. وعلى صعيد التجارة والرسوم الجمركية، يبدو سجل الإدارة متبايناً، فتصميم ترامب إما على نقض اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، أو إصلاحه جذرياً ليصب في مصلحة الولايات المتحدة، لم يتمخض هو أيضاً عن شيء ذا بال. وتجري حالياً مفاوضات، لكن ليس ثمة دلالة على أي وفاق من شأنه أن يفي بالهدف الأصلي الذي وضعه ترامب نصب عينيه، وفي هذه الحالة، فإنه ببساطة قد ينسحب من ذلك الاتفاق التجاري الإقليمي المهم لجميع أطرافه. وعند تولي السلطة، ألغى ترامب اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، والذي تم التفاوض عليه بعناية ولوقت طويل، وهو اتفاق تجاري كان من شأنه أن يشمل حلفاء الولايات المتحدة كافة، باستثناء الصين. ولا يزال الأطراف الآخرون في ذلك الاتفاق المقترح ملتزمين بإبرامه، غير أنه لا يزال من غير المؤكد أي دور ستلعبه بكين. وفي هذه الأثناء، وقعت اليابان، اللاعب الاقتصادي والتجاري الفاعل والمؤثر، اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، ما يجعلهما تكتلاً تجارياً رائداً على الصعيد العالمي. وعلاوة على ذلك، يمضي ترامب قدماً في فرض رسوم جمركية على حلفاء أميركا من الدول الأوروبية، إلى جانب كندا والمكسيك واليابان والصين، من دون روية كافية. ومرة أخرى، ما يزال الوقت مبكراً على محاولة تحديد ما إذا كانت هذه الأساليب ستفضي إلى حرب تجارية شاملة، أو أنها ستساعد على ضبط الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة. أما على الأصعدة الجيوسياسية، فقد ركزت السياسة الخارجية الأميركية بشكل كبير على العلاقات مع الصين، والتهديد النووي لكوريا الشمالية، والأزمات في دول شرق أوسطية، خصوصاً سوريا وإيران، والعلاقات المتدهورة بين حلف «الناتو» وروسيا بشأن الأزمة الأوكرانية. وقد سحب ترامب تأييد الولايات المتحدة لاتفاق باريس بشأن المناخ في الثامن من شهر مايو الماضي، وأعلن كذلك انسحاب بلاده من «خطة العمل الشاملة المشتركة» (الاتفاق النووي الإيراني). وكان قد وعد بالانسحاب من كلا الاتفاقيتين في حملته للانتخابات الرئاسية. وبالطبع سيكون لانسحابه من اتفاق باريس تداعيات على المدى الطويل، فيما أدى الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني إلى تصعيد التوترات مباشرة بين واشنطن وطهران، وإلى تبادل لتصريحات حادة لم تخلُ من التلويح بالحرب وتعطيل إمدادات النفط. وأفضى الموقف الأميركي الجديد إلى إلغاء كثير من العقود التجارية المغرية بين شركات أميركية وأوروبية وبين إيران، وهو ما أثّر سلبياً على اقتصاد إيران المتداعي بصورة كبيرة، ومن المرجح أن يؤدي إلى زيادة المظاهرات المحلية المطالبة بتحسين مستويات المعيشة المتدهورة أصلا. وقد حظيت قمتا ترامب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون في سنغافورة، في الثاني عشر من يونيو الماضي، ومع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي في السادس عشر من يوليو الجاري، بتغطية إعلامية دولية واسعة، لكن الآراء تباينت حول القيمة الفعلية لتينك القمتين بالنسبة للرئيس الأميركي. ويقبل كثيرون فكرة أن قمة سنغافورة تمثل نجاحاً كبيراً لكوريا الشمالية، لكن اجتماع المتابعة مع وزير الخارجية الأميركية «مايك بومبيو» في بيونج يانج، تم اعتباره إخفاقاً لأنه لم يتمكن من رؤية كيم. أما اجتماع هلسنكي فيُنظر إليه عالمياً على أنه انتصار لبوتين وخطأ فادح لترامب، الذي بدا مؤيداً للرئيس الروسي، أكثر من تأييده لأجهزة الاستخبارات في واشنطن بشأن تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. وما من شك في أن ترامب قد أظهر تأثيره في المجتمع الدولي، وسيحقق بعض الامتيازات لبلاده في النهاية، لكن الثمن الذي دفعه حتى الآن هو خسارة ثقة بعض حلفائه، وزيادة التكهنات بشأن تهديد تتعرض له مؤسسات مثل «الناتو» و«منظمة التجارة العالمية».. على نحو يضر بالنظام السياسي الغربي الذي قادته واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.