يبدو أن الوقت قد حان ليهتم العرب بالتجربة الصينية، التي أهملوها طويلًا، وهم يلهثون وراء تجارب الغرب وخبراته، ويعتبرونها المرجعية الأساسية والمقياس الوحيد للنجاح، ليس في السياسة والاقتصاد والقيم الاجتماعية وحدها، وإنما أيضاً في عالم الثقافة والفنون والآداب. فصعود الصين بهذه المستوى الكبير، يستحق إمعان النظر في الأعمدة الأربعة التي تقوم عليها نهضتها، وهي: الأرض أو الموقع الجغرافي، وصناعة القادة، والفلسفة السياسية المتماهية مع التصورات الدينية المعتدلة، والخطة أو المشروع المدروس بعناية. وهي أعمدة رعاها صناع الصين الحديثة بدءاً من ماو تسي تونج (1949 -1976) الذي وحّد البلاد بعد أن عجت بالفوضى ومزقتها حرب أهلية طاحنة، ثم دنج شياو بنج (1978 -1992) الذي يعد مهندس الصين الحديثة، والرجل الذي تمكن من تجديد الرؤية الفكرية والمشروع السياسي لبلاده، ومن جعل بوسعنا أن نقول «الاشتراكية تجدد نفسها» في مقابل «الرأسمالية تجدد نفسها» حسب كتاب شهير للمفكر الاشتراكي المصري فؤاد مرسي. لقد كان للصين، التي يصل عدد سكانها إلى 1.4 مليار نسمة يعيشون على مساحة 9.6 مليون كم مربع، مكونة من 56 قومية، خصوصية لافتة، حيث تمتزج، في سهولة ويسر، التجربة الاشتراكية بالقيم الروحية والفكرية التي تكمن في الكنفوشية والطاوية، ويولد المستقبل على أكف الحاضر من دون عنت ولا عناء. فالطريق مفهوم راسخ في الثقافة الصينية يقترب من العقيدة، وهو مستمد من الفلسفة الطاوية، وهي ثاني فلسفة منتشرة في الصين بعد الكنفوشيوسية، وتعني الطريق الذي يجب أن يسلكه المؤمنون وصولاً إلى الغايات الأسمى، بداية من بوابة الظلمة إلى نور المعرفة واليقين، وللانتقال من اللاموجود إلى الموجود. وتقدم تجربة الصين في الحكم والإدارة خبرة عميقة، بوسعنا الاستفادة منها، فهي تقوم على معرفة دقيقة بأحوال البلاد: إمكاناتها وطاقتها الكامنة وإرادتها ورغبتها في أن تجلس على عرش العالم في هدوء ويسر وسلام، وضرورة الاهتمام بالثراء الفكري، وامتلاك مهارات القيادة والإدارة، والتحلي بتكامل الرؤية، والتمسك بالقيم الأخلاقية، وعدم التخلي عن الثوابت، والإيمان بالعلم، والقدرة على التواصل والإحساس بالآخرين، والثقة بالنفس، والتواضع، والانضباط والحزم، والنزاهة والشفافية، والواقعية والعمل الجاد والمتواصل والتجويد المستمر، واحترام القانون، وامتلاك الخيال السياسي، والقدرة على تحليل المواقف وتقديرها. وقد انعكست هذا القيم على خطة التغيير التي تبناها الرئيس الصيني الحالي «شي جين بينج» وهو يقوم بإصلاحات هيكلية تعزز قوة التنمية الاقتصادية وجاذبية العرض، وبناء نمط من التنمية المتناسقة أو المتناغمة، والتنمية الخضراء، والتعاون مع الآخرين لتعظيم الفوائد والمكاسب المشتركة، وإصلاح الأخلاق من دون نسيان المصالح أو طغيانها، والحرب التي لا هوادة فيها على معوقات التقدم مثل الفساد الإداري والمالي، والقضاء على الفقر، ومكافحة التلوث البيئي. وانعكس هذا على مبادرات البناء وجهوده من أجل تحقيق «الحلم الصيني»، والذي يرمي إلى «تحقيق رخاء الدولة، ونهضة الأمة، وسعادة الشعب»، ومن هنا عملت بكين على تعزيز الابتكار، وبناء قدرات عسكرية فائقة، وفي الوقت نفسه، تبنت سياسة خارجية قائمة على مبادئ محددة مثل: اعتماد التفاوض سبيلاً لحل الخلافات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإرساء دعائم السلام والتنمية والتعاون المتكافئ، والتمسك بالمفاهيم الصائبة والخيرية للأخلاق والمصالح، والإحساس بالمصير المشترك للبشرية، وتبني مفهوم الأمن الشامل. إننا حين كنا نسمع من بعض أساتذة العلوم السياسية، ونحن لا نزال طلاباً جامعيين، أن نظام القطبية الثنائية الذي وزع العالم على إمبراطوريتي القرن العشرين، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، في سبيله إلى التداعي، وأن قوى دولية أخرى تصعد لتصنع نظاماً دولياً متعدد الأقطاب، كانت الصين هي الرهان الأول، وزاد الاعتقاد في هذا التصور بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد دول «الكتلة الشرقية»، ثم ترسخ مع توالي أزمات أميركا الاقتصادية والسياسية، والأهم الأخلاقية، حيث أصبح مشروعها محل نقد ورفض وتساؤل وتشكيك وتذمر، لاسيما بعد أن حاولت إعادة الاستعمار بشكله التقليدي إلى الحياة. وقتها كنا نواجه المستقبل بأسئلة تبدو عصية على إجابات طيعة وجاهزة أو معلبة، ومنها سؤال نردده دوماً يقول: «الصين عملاق نائم فمتى يستيقظ؟»، وسؤال آخر طُرح بشدة على مائدة البحث والفحص والدرس مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين يقول: لماذا سقطت الشيوعية السوفييتية، بينما عاشت الشيوعية الصينية؟ وما الذي منح تجربة ماو تسي تونج تلك الحيوية التي جعلتها قابلة للاستمرار وهي ترى تداعي اللينينية الماركسية وانفضاض كثيرين عنها؟ وكنا نحلم بأن استيقاظ الصين قد يساهم في صناعة حالة من التوازن والسلم والتصالح والتعاون إلى العالم كافة، خاصة العالم العربي الذي يعيش الآن مرحلة سيئة مع اندلاع الحروب في سوريا واليمن وليبيا، واستمرار الانقسام الطائفي في العراق، والاضطراب الاجتماعي والاستقطاب السياسي في البلدان التي شهدت ثورات وانتفاضات مثل مصر وتونس، وحدوث تفكك في السودان، قسَّمه إلى دولتين، بينما تستمر عوامل قد تودي به إلى مزيد من التفكك، علاوة على الوهن الاقتصادي الذي يصيب أغلب الاقتصادات العربية، والتهديدات الخارجية المستمرة، التي تطال الجميع. ويبدو أن الصين لن تخيب الرجاء الذي حل بنفوس كل من قرأوا مع بداية العقد قبل الأخير من القرن العشرين عن صعود الصين والهند والاتحاد الأوروبي، لينكسر الاستقطاب الدولي الشديد، الذي كان مبنياً على الأيديولوجتين المتناطحتين، الليبرالية والشيوعية، واللتين تخفيان خلفهما صراعاً ضارياً للمصالح والمطامح والمطامع، ويطل برأسه نظام آخر، توالت الدراسات حوله تحت لافتة «النظام الدولي الجديد»، ثم ذاب كل شيء في بحر «العولمة» الفسيح الهائج، وعادت الولايات المتحدة لتنفرد بالقوة، وترفع شعار «نحن أميركا» في وجه العالم، وهي مسألة لابد من تلطيف غلوائها مع النزعة الترامبية التي تتسم بالتشدد والتقلب في آن. ومن حسن الطالع أن عدداً من المفكرين والخبراء والكتاب العرب قد التفتوا في العقد الأخير إلى أهمية «التوجه شرقاً»، لنثري تجاربنا وعلاقاتنا، ونوسع فرصنا وخياراتنا، لكن هذا التوجه لا يزال خجولاً وحذراً ومتقطعاً، وهي آفة، آن الأوان أن ترحل عن حياتنا من دون رجعة، لاسيما أن مبادئ السياسة الخارجية للصين تتوافق إلى حد كبير مع مواقفنا ومطالبنا وتوجهاتنا حيال العالم بعمومه، وحيال القوى الكبرى على وجه الخصوص. فالصين تنطلق في علاقتها تلك من مبادئ عدة، هي: 1 -ترسيخ قيم المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة. ففي مقابل الاستفادة من القدرات الاقتصادية للدول الأخرى تقدم الصين مساعدات اقتصادية ملموسة، وتلغي بعض ديون الدول الفقيرة، كما تلغي التعريفة الجمركية على أنواع كثيرة من المنتجات المصدرة، وتقوم بتدريب موظفين في مختلف التخصصات. 2 -عدم التدخل في شؤون الدول، على غرار ما تفعله بعض الدول الغربية التي تستخدم قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان كشروط لتقديم المساعدات والمعونات والاستثمارات. وتتكئ بكين في هذا على سمعة تاريخية ناصعة، إذ إنها لم تمارس الحكم الاستعماري، ولم تشارك في جريمة نهب ثروات الدول وقدراتها واستعباد شعوبها ردحاً طويلاً من الزمن، كما تحاذر بكين في تصديرها السلاح إلى الدول التي تشهد صراعات حتى لا تظهر في أي لحظة في موضع من يؤجج الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والتمردات العسكرية. 3 -مراعاة احتياجات المواطنين في الدول الفقيرة والنامية لسلع رخيصة ومتنوعة وضرورية، من خلال الدراسة المتأنية للأسواق، ولأنماط الاستهلاك، والتركيبة الطبقية، والعادات والتقاليد والسلوك، ومنظومة القيم السائدة. 4 -تجنب الدخول في منافسة سافرة مع القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، التي تزاحم الصين في العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. 5- التحلي بالرؤية الاستراتيجية العميقة، إذ تدرك الصين أن ارتقاءها قطباً عالمياً يحتاج إلى ركائز عدة، في مقدمتها الحصول على نصيب وافر من مصادر الطاقة. 6- الانتقال تدريجياً من اعتبار البلدان التي تسعى بكين إلى إقامة علاقات متميزة معها مجرد سوق رائجة لتصريف منتجات الصين الرخيصة والغزيرة إلى بناء صيغة من الشراكة في مجال التنمية. 7- سعي الصين الجاد الطموح إلى أن تصبح قطباً عالميًا بارزاً، يعيد التوازن المفقود إلى النظام الدولي الراهن.