تحتلّ الصين نصف مساحة آسيا تقريباً. ويصل عدد سكانها إلى مليار و400 مليون نسمة. والعقيدة الدينية التي انبثقت عنها هي الكونفوشيوسية، نسبة إلى المعلم كونفوشيوس. لكن لا يوجد في كل هذا العالم الواسع والكثيف السكان سوى تمثال واحد لأحد فلاسفة الكونفوشيوسية. والتمثال حديث العهد، أمر الرئيس الصيني الحالي «شي جين بينغ» بإقامته في حديقة عامة بمدينة غيانغ في جنوب البلاد. خلال «الثورة الثقافية» التي قادها الزعيم الصيني الراحل «ماو تسي تونغ»، أُزيلت جميع تماثيل كونفوشيوس وتماثيل فلاسفة عقيدته، ودمرت جميع المعابد الكونفوشيوسية عن بكرة أبيها. وأصبح مجرد الحديث عن هذه العقيدة يعتبر مؤامرة على الدولة والمجتمع. كان من ضحايا تلك الموجة وانغ يانغ مينغ وتعاليمه التي وُصفت في حينه بأنها أفكار «بورجوازية». واستمر الحظر التام لهذه التعاليم حتى تسعينيات القرن الماضي إلى أن أصبح هو ومدرسته نسياً منسياً. وتدور فلسفته حول القيم الأخلاقية. لكن تعاليمه مُنعت وأُحرقت كتبه، كما أُحرقت كتب سائر فلاسفة الكونفوشيوسية الآخرين. واليوم يعيد الرئيس الصيني الاعتبار للكونفوشيوسية، وتحديداً للفيلسوف وانغ، وذلك لسببين أساسيين: السبب الأول هو أن نظريات وانغ عن الأخلاق تشكل قوة دفع لعملية مكافحة الفساد في الصين، والذي استشرى خلال السنوات الأخيرة مع تضخم الازدهار الاقتصادي. والسبب الثاني هو حاجة الصين لعقيدة تملأ الفراغ الروحي لدى الإنسان الصيني. لقد خرجت من الفقر المدقع إلى الغنى، إلا أن الشعب الصيني، كما يقول علماء الاجتماع، مازال بحاجة إلى «شيء ما»، إلى فلسفة تملأ أي فراغ في حياته. ويخشى الرئيس الصيني من أن تفتح هذه الحاجة النفسية الأبواب أمام حركات التبشير القادمة من الغرب، مما قد يؤدي إلى نسف القواعد والأسس الفكرية التي يقوم عليها المجتمع الصيني. ومن هنا كان التوجه الجديد نحو إعادة الاعتبار إلى الكونفوشيوسية، وكان أول الغيث بناء تمثال للفيلسوف يانغ بعد مرور 500 عام على وفاته. ولد هذا الفيلسوف الصيني في عام 1472، وكان مقرباً من القصر الإمبراطوري حينذاك. لكنه في عام 1506 انتقد أحد كبار مسؤولي القصر بسبب الشدة التي يعامل بها الناس، فكان عقابه النفي إلى قرية نائية في جنوب البلاد. وهناك أقام وانغ مركزاً منعزلاً للتأمل الروحي ولدراسة تعاليم كونفوشيوس، حتى وصل إلى نظريته الأخلاقية التي أُعجب بها الرئيس «شي جين بينغ». لذلك طلب إقامة تمثال له في المدينة التي نُفي إليها.. وتبنّى نظريته التي يقول فيها، إن لدى كل إنسان «بوصلة داخلية» تدله على اتجاه الخير. وإضافة إلى فلسفته تلك، يبدي الرئيس إعجاباً بولاء الفيلسوف وانغ للدولة وللإمبراطور، فرغم النفي والإبعاد الذي تعرض له، إلا أن ولاءه لم يضعف بل انضم إلى جيش الإمبراطور معلماً ومقاتلاً.. وهو درس آخر يحرص الرئيس الصيني اليوم على نشره داخل الحزب المجتمع، للتأكيد على أن الخلاف مع الحاكم لا يجوز أن يترجمَ عدمَ ولاء للدولة. يتبنى الفيلسوف وانغ نظرية التكامل بين المعرفة والعمل، وهي من النظريات التي لاقت استحساناً من الرئيس «شي جين بينجغ». وتقوم هذه النظرية على اعتبار أن المعرفة تشكل دليلاً وضوءاً ساطعاً للعمل من أجل بلوغ الهدف، وأنه من دون معرفة، فإن العمل يتحول إلى مجرد جهد عشوائي يعجز عن بلوغ الهدف المنشود. لقد أقفلت صفحة الكونفوشية في الصين على يد الزعيم «ماو تسي تونغ».. وها هي تعود من جديد على يد الزعيم «شي جين بينغ».