تعيينات المحكمة العليا الأميركية أعادت إلى الضوء مسألة المحافظة والطريق الظافر الذي تسلكه هذه الأيام: لا في الولايات المتحدة فحسب، بل في عموم العالم الغربي. فالمحكمة العليا هي، في آخر المطاف، السلطة العليا. وبحسب ما كتب «نُوح فيلدمان» مؤخراً، في «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، فإنها «تعيد تشكيل القانون والسياسة الأميركيين، وتعيد تأويل القضايا الأساسية للحقوق الفردية والحيزات الخاصة، وكذلك للرعاية الطبية والعمالة والأمن القومي والبيئة.. وبدورها فهذه التغييرات تنعكس على السياسات الانتخابية». وتثبيت أكثرية محافظة في المحكمة العليا سيكون طعنة أخرى للقيم الليبرالية ولحامليها، خصوصاً أن الليبراليين الأميركيين كثيراً ما عوّلوا تاريخياً على قرارات هذه المحكمة، لموازنة قرارات يصدرها الكونغرس حين تكون أكثريته جمهورية. ما هو أبعد من المحكمة الدستورية، وهو ما بتنا نراه خصوصاً في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، أننا نعيش راهناً ثورة محافظةً لا تُخل باللعبة الديمقراطية، وإنما تقوم على فصل الديمقراطية، كعملية انتخابية، عن الليبرالية، كمجموعة معايير وقيم باتت، منذ عشرات السنين، تلازم المنظومة الديمقراطية. وهي تستطيع، من هذا الموقع، التأثير في العملية الانتخابية نفسها عبر التقنيات غير الليبرالية، كالسيطرة على الإعلام والتحكم بالمهن وبالمجتمع المدني عموماً. وهذا ناهيك عن إشاعة قيم غير ليبرالية، تسندها دعاية النظام، في المجالات الاجتماعية والأخلاقية، أو تعميم وتكريس فكرة القائد الشعبوي بوصفه المنقذ والمخلص. وربما كان رئيس الحكومة الهنغاري فيكتور أوربان الأكثر صراحة في فصل الديمقراطية عن الليبرالية والدعوة المتحمسة لذالك الفصل. هذه الثورة المحافظة، أكانت في الغرب الأميركي أم في الغرب الأوروبي بشطريه، تنطوي على بُعد حدودي واضح، أكان في الجغرافيا أم في التاريخ. فعلى المستوى الأول مثلاً، يلاحظ أن البلدان الحدودية مع العالم الإسلامي (أوروبا الوسطى والشرقية: النمسا إيطاليا) في طليعة الناقمين على الليبرالية. لكنْ، وما دامت الهجرة واللجوء يفعلان فعلهما في تقديم أكباش المحارق، فإن سياسة دونالد ترامب حيال المكسيك لا تقل حدةً وتعبيراً. أما في تبويب الزمن وفرزه، فتحضر الخمسينيات بوصفها العقد المثالي. ففي هذا الحنين إلى زمن شبه حقيقي وشبه مُتخيّل، يلوح ذالك العقد للشعبويين القوميين في أوروبا الغربية بوصفه الزمن السابق على نزع الاستعمار وانهيار الإمبراطوريات القديمة. وفوق هذا فالخمسينيات هي العقد المحافظ أخلاقياً وقيمياً بالقياس إلى الستينيات وما شهدته من ثورة شبابية طالت جوانب الحياة كلها تقريباً. ولئن شابه شعبويو الولايات المتحدة ومحافظوها زملاءهم الأوروبيين على هذا الصعيد، تبقى الخمسينيات أيضاً الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة البلد الوحيد الثري في العالم: فهي التي كانت بأموالها تعمّر أوروبا واليابان، فيما لم تكن الصين تمثل أي تحدٍ اقتصادي يُحسب له حساب. أما في الداخل، فلم تكن هناك حركة حقوق مدنية، وكان التسليم بهيمنة «الواسب» (الأنغلو ساكسون البروتستانت البيض) تسليماً أقرب إلى البديهي. وإذا صح أن شعبويي أوروبا الوسطى والشرقية لا يحنّون إلى الخمسينيات الشيوعية، فإنهم يجدون فيها ما يحرّك حنينهم: فدولهم كانت آمنة وقوية (إلا حيال الاتحاد السوفييتي بالطبع)، وتعهّد الدولة لهم بتأمين ضروريات الحياة البسيطة كان متوفراً، وحضور الأجانب والاختلاط بهم كانا مستبعَدين جداً، هذا ناهيك عن تقليدية القيم والعلاقات السائدة في ظل الشيوعية. هكذا يستطيع المحافظ الشعبوي والقومي أن يمضي في خوض معركته ضد المستقبل، وضد العولمة، مُدجَّجاً بصورة عن ماضيه يختارها ببالغ الانتقائية. لكن مثالات كهذه تسببت وسوف تتسبّب بأزمات ومشاكل أكثر كثيراً مما ستحله من معضلات. يكفي أن نلقي نظرة سريعة على الحرب التجارية التي بدأتها الإدارة الأميركية ضد الاتحاد الأوروبي والصين وكندا والمكسيك في آن واحد!