مثير جداً شأن العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وطوال سبعة عقود هي عمر الدولة العبرية، لا يزال العالم العربي يتساءل: ما سر هذه العلاقة؟ الدخول في العمق يوضح لنا أن هناك ما هو أبعد بكثير من مجرد الطروحات والشروحات السياسية، فما بين اليهود الإسرائيليين والأميركيين جوهر دوجمائي عقائدي، يتجاوز إشكاليات السياسة النسبية. ماذا عن مآلات العلاقات الإسرائيلية الأميركية في زمن ترامب؟ وهل بات الإسرائيليون حقاً يفضلونه على الرئيس باراك أوباما؟ وإن كان ذلك كذلك، فما السبب؟ خلال ثماني سنوات هي عمر إدارة أوباما، قدّم لهم الرجل من المساعدات المالية والعسكرية أكثر مما قدمه لهم أي رئيس أميركي سابق، وربما عن قصد أو بطريق غير مباشر، عمل أوباما جاهداً على أن تكون إسرائيل هي الدولة الأكثر استقراراً في الشرق الأوسط. على أن ذلك كله لم يشفع له وفضَّل عليه الإسرائيليون مؤخراً الرئيس ترامب، وذلك في استطلاع للرأي أجري قبل أيام، بالتزامن مع احتفالات الولايات المتحدة بعيدها القومي. الاستطلاع الذي أجرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أشار إلى أن 49%، أي حوالي نصف الإسرائيليين، راضون بشدة عن ترامب، و23% راضون بعض الشيء، بينما 22% فقط غير راضين. وفي المقابل، وخلال الاستطلاع عينه حول أوباما، قال 19% من المستطلعة أراؤهم إنهم راضون عن أوباما بشدة، بينما حوالي 30% قالوا إنهم راضون بعض الشيء، مقارنة بـ46% قالوا إنهم غير راضين بالمطلق عما فعله أوباما.. لماذا وكيف؟ منذ بدايات أيامه حاول أوباما أن يقدم صفقة متوازنة لقيام سلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وفي جامعة القاهرة، في يونيو 2009، قدم أوباما وعوداً مخملية لقيام دولة فلسطينية، غير أن الأيام أثبتت لاحقاً أن الأمر برمته لم يكن سوى وعود خارج سياقات التنفيذ. واكتفى الرجل طوال سنوات حكمه بالقيادة من وراء الكواليس، وبدون أي جهد حقيقي لتحريك المياه الراكدة في بحر التعنت الإسرائيلي. بل أكثر من ذلك، فإن أصواتاً بعينها في قلب إسرائيل، وجّهت له أصابع الاتهام بمحاباة الفلسطينيين على حساب أمن وأمان الإسرائيليين. هل أضحى ترامب الرجل الأول في الداخل الإسرائيلي، وربما بشعبية أكبر من تلك التي يتمتع بها بنيامين نتنياهو؟ الجواب يعود بنا إلى دائرة الخطوط العقائدية التي أشرنا إليها قبل قليل، ذلك أن ما قدّمه ترامب للدولة العبرية وللشعب الإسرائيلي في حاضر أيامنا يكاد يكون الأكثر أهمية بالنسبة لهم على مدى سبعة عقود هي عمر هذه الدولة ماذا يعني ذلك؟ باختصار غير مخل، منذ عام 70 ميلادية، حينما تشتت بنو إسرائيل حول العالم بعد تدمير الرومان للقدس بنوع خاص، ظل الهدف الرئيس لهم، وطوال ألفي سنة، هو الرجوع إلى المدينة المقدسة تلك في يوم من الأيام. كانت تحية اليهود من أقصى الشرق إلى أقاصي الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وبنوع خاص في زمن عيد الفصح: «كل عام وأنتم بخير، والعام القادم نلتقي في القدس». استمر الوضع على هذا النحو إلى حين قامت دولة إسرائيل عام 1948، لكن قيام الدولة لم يكن كافياً في أعين جيل الآباء المؤسسين لاسيما بن جوريون، أول رئيس لدولة إسرائيل، فقد صرح في الأيام الأولى لدولته القائمة على اغتصاب الأراضي الفلسطينية، بأن لا فائدة من دولة يهودية من دون القدس والسيطرة عليها، ولا منفعة ما ترجى من وراء القدس إذا لم يقم الهيكل في الوسط منها وتقدم فيه الذبيحة، أي تمارس الطقوس اليهودية التي ترمز لنهاية الخراب الذي تعرض له الهيكل المفترض. هل عرف القارئ أي معروف أبديّ أسداه ترامب إلى يهود العالم عامة وإلى الإسرائيليين منهم خاصة؟ حين اعترف ترامب بأن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وعندما أقدم على ما لم يقدم عليه أي رئيس أميركي سابق، أي نقل سفارة بلاده إلى القدس، كان يحقق حلم بن جوريون وكل أصحاب الأيديولوجيا الأصولية الدينية اليهودية. وفي هذا السياق من الطبيعي أن تصل شعبية ترامب في إسرائيل إلى نحو 50% هناك، بينما شعبيته لا تكاد تصل إلى 42% في الداخل الأميركي. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبحسب الاستطلاع عينه يوافق نحو 44% من الإسرائيليين على خطة ترامب للسلام، أي «صفقة القرن»، والتي أصبحت خطوطها العريضة معروفة للكثيرين. وبعيداً عن المزايا الاقتصادية التي تَعِد الصفقة بتوفيرها للفلسطينيين، فإنها تقضي على أي أمل في أن تكون القدس الشرقية ذات يوم عاصمةً لدولة فلسطينية. فهل يغازل ترامب جماعات الضغط اليهودية في الداخل الأميركي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم، وهي انتخابات قد تكون طريقاً لولاية ثانية له؟ يخشى المرء أن يكون هناك ثمن باهظ آخر يتوجب دفعه، لا على الفلسطينيين فقط، بل على عموم المسلمين حول العالم، فيما يخص إشكالية الهيكل والمسجد الأقصى!