ما بين البَصْرة ونجد، في عشرينيات القرن الماضي، بوناً شاسعاً. دخل البريطانيون البَصْرة (1914) وسرعان ما هبت عليها رياح التَّمدن. فبدأت تألف الحياة الجديدة، بينما ظلت نجد حتى ظهور النفط على حالها، وكان لـ«أرامكو» تأثيرٌ كبيرٌ في هبوب رياح جديدة على البلاد، ومعلوم أن مدينة جدة كانت عالماً آخر. مع ذلك ظلت المرأة محرومة من قيادة السيارة بالمدن، بينما كانت قيادة السيارة للمرأة بالبَصْرة مفتوحة من يوم دخول السيارة، لكن ويا للعجب توقفت بعد 2003. شرعت نجد والمملكة العربية السعودية ككل بقيادة المرأة للسيارة قبل أسبوعين فقط (24 /6 /2018)، أي بعد دخولها بنحو تسعين عاماً، وكان التأخير لمتطلبات العرف الاجتماعي والتشدد الديني. بينما لم تألف البَصْرة مانعاً، فكيف تراجع الزمن القهقرى، وعادت الأوساط المرحبة تحتفل بمشاهدة نساء يقدن سيارتهن، وكان المنع، في ظل الدِّيمقراطية العجيبة، لأسباب عشائرية ودينية وأجواء أمنية، فمِن المعلوم أن أي صعود للقوى المتشددة اجتماعياً تكون المرأة ضحيته. دخلت السيارة العراق عام 1908، وكان السَّائق أجنبياً «فخرج أهالي بغداد للتفرج عليها، وصار بعضهم ينظرون تحتها لكي يكتشفوا الحصان الكامن في بطنها على زعمهم» (الوردي، لمحات اجتماعية). بالمقابل دخلت السيارة نجداً (1921) مع سائقها الأجنبي أيضاً، و«كانت أثناء سيرها إذا مرَّت بجمع من البدو شخصت نحوها أبصارهم، إذ إن السَّيارة من عمل الشيطان، فيها السحر» (الرفاعي، من ذكرياتي). أرخ هاشم الرفاعي (ت1950) لهذا الحدث، وكان شاهد عيان. أخذ رجال الدِّين ينصحون ضدها، والظرف لم يكن سهلاً، فكانت لـ«إخوان من طاع الله» اليد الطولى، قبل اندحارهم (1929). فجاءت الفكرة أن اصطحب الملك عبد العزيز (ت1953) رجل دين إلى جانبه في السيارة، ومن يومها بطل السحر (نفسه). في ذلك الوقت دعا الوجيه البصري النجدي عبد اللطيف المنديل (ت1940) بحماس إلى «عقر البعير»، كناية عن مدة المواصلات الحديثة (نفسه). غير أن تلك القوى التي حاولت منع وجود السيارة نمت أفكارها في المجتمع، وساهمت بتأخير قيادة المرأة لنحو تسعين عاماً، فإذا كان فرض وجود السيارة بقرار رسمي، جاءت قيادة المرأة بقرار رسمي أيضاً، ولم يُكلل هذا بالنجاح لولا تعطيل مَن عرفوا تاريخياً بـ«المطاوعة» (وردت التسمية في تاريخ الطبري)، وتقليم مخالب الصحوة، التي اعتبر رموزها قيادة النساء للسيارات «مفسدة»، ثم تشريع قانون «التحرش». لا يقبل رجال الدِّين بالجديد، وما قد يُشتت انصياع المجتمع لهم، فقيل إن والي العراق ذهب بسيارته إلى النجف (1914) ولم تعرف السيارة من قبل، فطلب من أحد الوجهاء أن يرافقه بجولة فيها حول سور المدينة، رفض الركوب؛ لأنه «لا يأمن من شرها» (لمحات اجتماعية). غير أن هذا الكائن الشيطاني بنجد والشرير بالعراق، حسب تصنيف رجال الدين آنذاك، صاروا هم يتنعّمون به، وهذا ديدنهم مع كل اختراع يحرِّمونه «سداً للذرائع» ثم يستخدمونه. اشتريت كتاباً مِن معرض الرياض (2013) تحت عنوان «السادس مِن نوفمبر» (دار جداول)، يحكي قصة خروج نساء بسيارتهن في تظاهرة كانت مثيرة للجدل (6/11/1990)، من تأليف عائشة المانع وحصة آل الشَّيخ، والكاتبتان ضمن السبع والأربعين اللواتي قدن سياراتهنَّ، في وقت كانت حرب الخليح الثَّانية تقرع طبولها، و«الصحوة» في أوجها، فتوجه خطباؤها وشعراؤها ضدهنَّ. قال صحوي: «ولربَّما خدعتكِ علمانيةٌ/ ولربَّما أغراك ذئبٌ أغبرُ». لكن هناك مَن وقف مؤيداً: «سقط الذي قال الحرائر ساقطات/بل شامخات ساميات رائعات» (السادس من نوفمبر). كان ذلك قبل (28) عاماً، ولا أدري ما هي درجة زهو من بقين منهنَّ على قيد الحياة، ويقدرنَ على قيادة السيارات، وهنَّ يشاهدنَ النِّساء يقدنَ سيارتهنَّ، ولم تخسف الأرض تحتهنَّ، مثلما بشر الممانعون. بعد تلك التظاهرة، صدرت فتوى دينية لتحريم قيادة المرأة، مع أنه في ما مضى لا توجد فتوى ولا قرار رسمي، إنما المنع كان وفق العُرف الاجتماعي، إلى درجة أن النساء أنفسهنَّ مقتنعات بالمنع ويحرضنَ عليه، فالصحوة ليست رجالاً فقط! غير أن تلك القوى، وعلى تبدل الأجيال، ظلت تورث صحوتها من جيل لآخر، فبعد أسبوع من قيادة المرأة للسيارة أُحرقت سيارة إحداهنَّ، وإلقي القبض على الجناة. إنها معركة، لكن هذه المرة جاءت المبادرة من الدولة نفسها. تتبدل العقول حسب الأزمان، فربَّما المحرضون ضد قيادة المرأة (1990) صاروا يدفعون بناتهم لتعلم القيادة، فالمنفعة تفرض نفسها، والأمر يشبه تماماً بدايات تعليم البنات. كان التخويف من الفجور والانحلال مجرد أوهام، تُحشى بها عقول البسطاء. إنها مفارقة، أكثر مِن تسعين عاماً أيضاً لم يُفكر البصريون: هل تقود المرأة السيارة أم لا؟! وإذا بالمدنيين منهم يحتفلون ويدبجون التقارير عن عودة النساء لقيادة السيارات وبحذر، وسط مخاوف من المجتمع نفسه، الذي انقلب رأساً على عَقب، في زمن لم يعد النجديون يقصدون البَصْرة لشم نسائم التَّمدن.