«إن الزيف وحده هو الذي يحتاج إلى دعم الحكومة، أما الحقيقة، فيمكنها أن تدعم نفسها».. هكذا تكلم أحد أهم الرؤساء الأميركيين عبر التاريخ.. توماس جيفرسون، السياسي والرئيس الذي تجلت عبقريته في أنه أمتلك تفكير الفلاسفة ودهاء الساسة، واستطاع استخدام الملكتين ببراعة، وهذا هو فن السلطة.. فهل من مقارنة بين سكان البيت الأبيض حالياً وجيفرسون؟ قبل أن يدخل ترامب البيت الأبيض وصفه خصومه بأنه رجل يجرح ولا يشرح، يفرق ولا يجمع، ومن هنا كانت أحاديثه أثناء حملته الانتخابية عن منع دخول المسلمين إلى البلاد، ولم تكد عشرة أيام تمضي على رئاسته حتى فتح باب الجدل واسعاً حول منع مواطني دول إسلامية من دخول البلاد بذريعة حماية الأمن القومي الأميركي من الإرهاب. ويكاد الأميركيون اليوم ينقسمون بدرجة لم تعرفها البلاد من قبل في ضوء قرارات الرئيس ترامب، وقد عمّق قرارُه بفصل أبناء المهاجرين غير الشرعيين عن ذويهم على الحدود مع المكسيك، الشرخ في الجدار المجتمعي الأميركي، ووسّع الهوة بين التيارات المحافظة والذين لا يزال لديهم قبس من نور أميركا والحريات. في سبتمبر الماضي، كان ترامب يصدر النسخة الثالثة من قراره بمنع دخول مواطني سبع دول، وفي ضوء الرفض له والتشكي منه، كان المهرب الأخير إلى المحكمة العليا. على أنه قبل التطرق إلى ما جرى في الهيئة القضائية الأعلى في البلاد، يتساءل المرء: لماذا يحرص ترامب على تقييد أميركا في إطار «جمهورية الخوف» القائمة منذ 11 سبتمبر 2001، والتي دفعت عراب العولمة الأشهر «توماس فريدمان» للقول بأن «أميركا لم ينبلج بعد فجر الثاني عشر من سبتمبر على أراضيها وسلطاتها وسكانها»؟ المطلعون على الفكر السياسي يعلمون تمام العلم أن العدو الجيد مهم للمجتمع المتوازن، غير أن فكرة خلق العدو، لاسيما إذا كان الطرح متلبساً ثوباً عنصرياً برداء ديني، أمر يتيح لجرثومة التفكك أن تتسرب إلى النفوس، وتالياً تمضي روح الجيتو التاريخية لتسود قطاعات بعينها، وتغيب روح الحرية عن الآفق. فهل كانت المحكمه العليا الأميركية بحاجة إلى إثبات أن الحظر ينتهك قانون الهجرة الأميركي ويعادل التعديل الأول بالدستور الذي يمنع الحكومة من تفضيل دين على آخر؟ القضاة الخمسة الذين أيدوا قرار ترامب الثالث، قالوا بأن مقدمي الطعون لم يعرضوا ما يثبت نية ترامب جعل الأمر مسألة دينية، في حين أن تصريحاته تشير إلى ذلك. وخلال شهر رمضان الفائت، كان ترامب يدعو لحفل إفطار في البيت الأبيض، وهو تقليد سنته هيلاري كلينتون حين كانت السيدة الأولى عام 1996، وأوقفه ترامب العامين الماضيين. غير أن نظرة سريعة على الذين وجه لهم ترامب الدعوة لحضور حفل الإفطار، تفيد بأنهم قلة قليلة جداً من الرسميين من دول إسلامية، أما رموز الأميركيين المسلمين فلم يكن لهم حضور بالمرة، مما يوضح الفجوة القائمة بين ترامب والإسلام كدين يعتنقه ملايين الأميركيين. يحاجج «جون روبيرتس»، رئيس المحكمة العليا في واشنطن، بأن قرار منع السفر يدخل ضمن صلاحيات ترامب كرئيس، بل ضمن جوهر مسؤولياته التنفيذية، وأن الأمر لا يشكل خرقاً للقواعد الدستورية الأميركية. ويشير إلى أنه لا يجب الأخذ بما يقوله أحد الرؤساء، بل بصلاحيات الرئيس عامة. لكن روبيرتس لم يقل لنا ما العمل حال كانت سياسات الرئيس تصب ضمنياً في مصلحة التمييز الديني. لا يمكن بحال من الأحوال أن يقيم قضاة المحكمة العليا في واشنطن -وقد اعترض أربعة منهم على القرار– الحجة على صحة قرار ترامب انطلاقاً من أن كلمة «مسلم» لم توجد في الوثيقة التي تضم دولاً غير إسلامية، مثل فنزويلا وكوريا الشمالية، ذلك أن التبرير هنا يفتح الأبواب واسعة للرؤساء الأميركيين في المستقبل، وتالياً لأي مسؤول أميركي نافذ، لاستخدام الحيلة لإخفاء التعصب العرقي والديني، وتغليفه بالزيف الذي تحدث عنه جيفرسون، وبالتالي للجوء إلى الدعم الحكومي، كما الحال مع المحكمة العاليا، لصبغه بصبغة الحقيقة. أفضل التعبيرات التي استخدمها بعض الخبراء الأميركيين الرافضين للأحادية الأميركية الحالية، هو أن القرار الثالث لترامب جاء في صورة «حظر على المسلمين جرى تجميله»، وذلك بإضافة فنزويلا (الكاثوليكية) وكوريا الشمالية (الشيوعية). يمكن لترامب أن يغرد بقرار المحكمة العليا، معتبراً إياه قراراً رائعاً، وأن يضيف في البيان الذى نشره البيت الأبيض بأنه «انتصار هائل للشعب والدستور الأميركيين، لاسيما وأنه أيَّد السلطة الرئاسية بشأن قضايا الأمن القومي». لكن ما لم يشر إليه ترامب يتصل بأمرين أساسيين: أولاً: علاقة ترامب بالعالم الإسلامي الذي يتجاوز تعداده المليار ونصف المليار نسمة، وكيفية قراءة التوجة الأخير، وكيف أن القرار يبني جدارناً عالية، ويقيم حواجز نفسية بين المسلمين و«أميركا الحريات»! ثانياً: هذا القرار سيشكل عقبة كوؤداً في الداخل الأميركي أمام مزيد من الاندماج الإيجابي من قبل المسلمين الأميركيين. فالغصة في الحلق ستبقى قائمة، وبخاصة في ضوء الترويج من قبل اليمين الأميركي لحتمية مواجهة هجرة المسلمين ومنع «أسلمة أميركا».. بما يصب الزيت على نار «الإسلاموفوبيا» المشتعلة أصلاً. وتبقى قرارات الرئيس الأميركي، وتأييدها حكومياً، موجةً من موجات الظلام التي يمكن أن تجتاح الدول والأفراد، لاسيما في ظل انعدام التسامح مع المهاجرين ومع الآخر المغاير عقائدياً وعرقياً. الخلاصة.. قرار المحكمة العليا الأميركية يمأسس للتمييز بين المعتقدات الدينية، ويشرعن اللاتسامح الديني.. إنها أميركا أخرى.. غير أميركا التي عرفتها.