كانت القمّة التي جمعت دول الاتحاد الأوروبي مؤخراً في بروكسيل، واعتُبر موضوع الهجرة واللجوء، موضوعها الأبرز، أعقد قمم أوروبا وأصعبها. فقد كانت صعبة في التحضير لها وفي انعقادها، وصعبة في نقاشاتها، وأخيراً، وهذا هو الأهمّ، ستكون صعبة في تطبيق مقرراتها التي وصفها المراقبون بالغموض الشديد. ففي العاصمة البلجيكية تصادمت آراء بالغة الاختلاف، بعضها يدور حول المعونات الماليّة للدول المستقبِلة للمهاجرين، كإيطاليا واليونان، وبعضها حول مكان إقامة المراكز الأمنيّة للاجئين، حيث تمسكت فرنسا بإقامتها في البلدان التي يحلّ فيها المهاجرون، وهو طبعاً ما رفضته إيطاليا. وهذا ناهيك عن الخلاف بين الخط الإسباني اليوناني في التعاطي مع اللجوء والخط الإيطالي البالغ التشدد والقسوة، أو امتناع بلدان أوروبا الوسطى عن المشاركة في الالتزامات والتعهدات الأوروبية. لكن وراء هذه الواجهة ثمة حقيقة أهم وأخطر: فبحسب الأرقام الأوروبية الرسمية نفسها، انخفض عدد اللاجئين غير الشرعيين إلى بلدان الاتحاد من أكثر من مليون شخص (وهو العدد الذروة الذي تحقق في 2015) إلى 56 ألفاً فحسب في 2017. وما يعنيه هذا أنّ الخلافات ماضية في التفاقم بينما المشكلة ذاتها تميل إلى الذبول والضمور! وهذا ما يسمح بالقول إن مسألة اللجوء والهجرة، ومن دون التقليل من أهميتها، باتت تُستعمل ذريعة شعبويةً وقومية للتخفف من الارتباط الأوروبي، وربما تالياً لتفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه انطلاقاً من اتفاقية شنغن للانتقال الحر بين دوله. تكفي نظرة سريعة إلى القوى المناهضة للاتحاد والتي تحكم اليوم بلداناً كإيطاليا والنمسا غرباً، أو بولندا وهنغاريا شرقاً، لتعزيز احتمال كهذا. فإذا ما وسّعنا نطاق النظر لاحظنا كيف أن هذا الصعود الشعبوي والقومي في أوروبا إنما يندرج في حالة أممية أعرض تمتد من موسكو في ظل فلاديمير بوتين إلى واشنطن في ظل دونالد ترامب. وإذا صحت رواية «واشنطن بوست» من أن الرئيس الأميركي حض نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون على مغادرة الاتحاد، واعداً إياه باتفاقات ثنائية بين البلدين في المقابل، أصبح توقع سوء النية في مكانه. فترامب، في آخر المطاف، لم يتحدث عن الحلفاء الأوروبيين إلا كمستفيدين صغار وأنانيين من الحماية العسكرية التي توفرها الولايات المتحدة لهم ومن تبادلها التجاري معهم. أما موسكو بدورها، فلم تدخر وسعاً في دعم القوى المناهضة لأوروبا في كل مناسبة انتخابية تشهدها القارة. واقع الحال أن استهداف مشروع الوحدة الأوروبية متعدد الرؤوس والأهداف: ذاك أن تجاوزه ديمقراطياً، وللمرة الأولى في التاريخ، لواقع الدولة –الأمة، إنما يصطدم بالنوازع القومية المتطرفة في كل واحد من البلدان، فيما تصطدم ليبراليّته وتوكيده على حقوق الإنسان بالتراكيب الشعبوية الرائجة اليوم في العالم. وليس بلا دلالة أن تتحول المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلى الرمز الذي يستهدفه هذا الهجوم الأخطبوطي على نحو مباشر. أما مشكلة الهجرة واللجوء، في ظل أوضاع اقتصادية سيئة، فتملك من المقومات ما يجعلها تلعب دوراً نموذجياً في استراتيجية الهجوم على أوروبا. ذاك أن القدرة على تأليب القطاعات الأقل تقدماً وازدهاراً بين السكان ضد «الغريب» هي قدرة لا يرقى إليها الشك. ويمكن بقليل من دفع الأمور بعيداً، تحويل هذا الغريب (الذي يستغل سذاجة أوروبا.. كما يزعم القوميون والشعبويون) إلى سبب تفسَّر بموجبه مآسي الأوروبيين ومصاعبهم دون استثناء. وهذا بدوره إنما يتيح فرصة نموذجية لسياسيين وصوليين يكسبون عبر المزايدات، ويدفعون النقاش إلى أرض بالغة الانخفاض، بحيث تنشأ مراكز أمنية للمهاجرين، تبعاً لما دعت إليه قمة بروكسيل، فيما اعتبرته منظمات حقوق الإنسان سجوناً عديمة الإنسانية.