لطالما كانت بطولات كأس العالم لكرة القدم ساحات عملاقة للتلويح بالأعلام الوطنية والاستعراضات القومية. لكن في الآونة الراهنة، ثمة أوضاع جيوسياسية تفور من تحت السطح وقد أضحت أكثر تعقيداً، بينما يمكن مشاهدة النعرات القومية تنفك من الإعلام. وقد عاقب الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا»، يوم الاثنين الماضي اثنين من اللاعبين السويسريين هما «جرانيت تشاكا» و«شيردان شاكيري» بغرامة قدرها 10 آلاف فرنك سويسري (10.100 دولار) لكل منهما بسبب إيماءة سياسية بعد إحراز هدفيهما في مباراة فازت فيها سويسرا بهدفين مقابل هدف واحد ضد صربيا يوم الجمعة الماضي، إذ قاما بأيديهما بمحاكاة علامة «العقاب ذو الرأسين» للعاهل والقائد العسكري الألباني السابق «سكاندربج»، والتي تزين علم ألبانيا والشعار الرئاسي لكوسوفو. وقد ولد ثلاثة لاعبين في الفريق السويسري، وهم «تشاكا» و«شاكيري» و«فالون بيهرامي» في كوسوفو، التي لا تعترف صربيا باستقلالها. وهم من عرقية ألبانية، ويلعب «تولانت» شقيق «جرانيت تشاكا»، وهو أيضاً لاعب كرة محترف ولد أيضاً في سويسرا، في المنتخب الألباني. غير أن كلاً من ألبانيا وكوسوفو، التي انضمت في 2016 لعضوية الفيفا، لم تفلحا في التأهل لكأس العالم، ويشعر مشجعوها أن سويسرا، الدولة المسالمة والمحايدة والمزدهرة على النقيض من كوسوفو من أوجه شتى، هي التي تمثلهم. وبدا ذلك الوضع غير المألوف ملائماً بصورة خاصة ضد صربيا، التي قام مشجعوها بكثير من أنشطة التلويح بالأعلام القومية التقليدية، وظهر بعضهم في قمصان مطبوع عليها صورة «راتكو ملاديتش»، الجنرال الذي أدانته محكمة العدل الدولية في لاهاي العام الماضي بالإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة. وبعد المباراة، التي أحرز فيها شاكيري هدف الفوز في الدقيقة الأخيرة، طالب المدرب الصربي بمحاكمة الحكم الألماني في لاهاي قائلاً: «بالطريقة ذاتها التي يحاكموننا بها». وغرّم الاتحاد الدولي لكرة القدم «الاتحاد الصربي» 54 ألف فرنك بسبب ذلك والرسائل السياسية التي أظهرتها الجماهير على رغم من أنها محظورة في مباريات كرة القدم الدولية. وهو ما يقودنا إلى التساؤل حول الولاءات الحقيقية للاعبين السويسريين من أصول كوسوفية. ومثلما كتب «شاكيري» في مقال حديث يؤثر في الوجدان نشرته صحيفة «ذا بليرز تريبيون»: «إن الأمر شديد البساطة، فسويسرا منحت أسرتي كل شيء، وأنا أحاول أن أمنح كل شيء للمنتخب، لكن عندما أذهب إلى كوسوفو، أشعر فوراً أنني في وطني أيضاً». وقد تم طرح السؤال بشأن الولاءات ذاته، جملة وتفصيلاً، قبل وقت قصير من منافسات كأس العالم، حول النجمين الألمانيين من أصول تركية، «مسعود أوزيل» و«إلكاي جوندوجان»، بعد التقاط صور لهما مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتوقيع «جوندوجان» على قميصه وإهدائه لأردوغان. وقد أدت تلك الصورة إلى سيل من الاتهامات لكلا اللاعبين، وحملت الرئيس الألماني «فرانك فالتر شتاينمير» على دعوتهما إلى توضيح ولائهما. وأوضح اللاعبان أنه على رغم من اتصالهما القوي بجذورهما، إلا أنهما فخوران بتمثيل ألمانيا، لكن ثمة شكوك لا تزال موجودة، عززتها نسب التأييد التي حصل عليها أردوغان من الجالية التركية الكبيرة في ألمانيا أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وبدرجة ما لم يكن أداء كل من «أوزيل» و«جوندوجان» جيداً أثناء اللعب مع المنتخب الألماني في مباريات كأس العالم. ويمكن للمرء أن يتحدث، مثلما يفعل كثير من القوميين، عن انحدار أوروبا، وانحسار الهوية، وتراجع قيمة الأعلام والرموز الوطنية. لكن بينما أشاهد كأس العالم، أنظر للواقع الأوروبي الراهن بنظرة أكثر تفاؤلاً. فعلى رغم من تصاعد وتيرة الولاءات، واستمرار ذلك التصاعد ربما بدرجة أكثر تعقيداً، أعتقد أن الأعلام بات لها أيضاً معاني جديدة. فالبنسبة لشاكيري، يرمز العلم السويسري إلى الشفقة والرحمة، وبالنسبة لأوزيل وجوندوجان، يظهر العلم الألماني نظام الاختيار والتدريب الذي يضمن حياة مهنية ناجحة، لم تكن ممكنة في أماكن أخرى. لذا، لا يبدو ذلك التعقيد مشكلة، وإنما ميزة، فلو أن الألبان يشجعون شاكيري أو تشاكا، فلن يضير ذلك المشجعين السويسريين شيئاً، ولو احتفى الأتراك بجوندوجان، فسيكون ذلك مكسباً للألمان. ورغم ذلك، يحق للفيفا أن تغضب من الإيماءات السياسية المتنوعة، ذلك أن العنصرية تطل برأسها من حين إلى آخر، ومن ثم يتم التشكيك في الولاءات بصورة مفهومة، فنحن لا نشاهد مجرد مباريات كرة قدم، وإنما نشاهد أوروبا جديدة تلتئم رغم الانقسامات كافة. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»