يمكن قراءة الانتخابات الأخيرة التي نُظمت في 24 يونيو الماضي بأنها نقطة تحول كبرى في تاريخ تركيا الحديثة على الرغم من التمديد للرئيس أردوغان الذي بحكم البلاد بصفة متتالية منذ 2002. صحيح أن حزب «العدالة والتنمية» لا يزال هو القوة الأولى في البرلمان، كما أن الواجهة السياسية للبلد لم تتغير كثيراً، إلا أن ما عرفته تركيا خلال السنتين الأخيرتين منذ المحاولة الانقلابية في يوليو 2016 والاستفتاء الدستوري في السنة الماضية (الذي نقل الدولة من الحكم البرلماني إلى الحكم الرئاسي القوي) هو تغير حقيقي في طبيعة النظام السياسي الذي انتقل من نموذج الليبرالية المحافظة الذي أوصل أردوغان للسلطة في بداية العقد الماضي إلى نموذج جديد نطلق عليه خط القومية المحافظة غير الليبرالية. ما لم يدركه الكثيرون هو أن حزب «العدالة والتنمية»، الذي خرج من عباءة تيار الإسلام السياسي (الأحزاب الأربكانية) لم يستطع أن يتجاوز القاعدة الانتخابية الضيقة للتنظيمات الحركية الإسلامية إلا بالتحالف مع القوى الليبرالية المحافظة التي تتركز في نخب الأناضول التقليدية ومجتمع الطرق الصوفي الذي تمثله جماعة «فتح الله غولن»، مع ما يقتضيه هذا التحول من تغير في الخطاب السياسي وانفتاح على أوروبا واستعداد للاعتراف بالقضية الكردية. لم يكن أردوغان نفسه هو من بلور هذا التوجه الذي بدأ مع رئيس الحكومة الأسبق «تورجوت أوزال»، الذي أراد نقل تركيا من المنظومة الأتاتوركية التقليدية القائمة على خط «العلمانية الجمهورية» إلى نمط من الليبرالية المحافظة على طريقة الأحزاب المسيحية الليبرالية في أوروبا الغربية بالاستناد على المجتمع الأهلي المتدين دون التفريط في أساسيات التركة الأتاتوركية. لقد تبنى رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول هذا الخيار الليبرالي المحافظ، فصرح بأن حزبه لم يعد ينتمي للإسلام السياسي، كما كان حريصاً على مشروع الانضمام للاتحاد الأوروبي، ووافقه شريكه أردوغان الرأي في بداية أمره قبل أن ينقلب عن هذا النهج ويبعد غول نفسه من المسرح السياسي. ما نلمسه بوضوح منذ 2012 هو تحول تدريجي في تركيا من الليبرالية المحافظة التي تعني قبول مقتضيات التعددية السياسية ومعايير المجتمع المفتوح من منطلقات فكرية وقيمية تنحاز للموروث التقليدي إلى صيغة أيديولوجية إسلامية من النزعات الشعبوية المحافظة التي تجتاح أوروبا في أيامنا. في بدايات الحملة الانتخابية للرئاسيات الأخيرة صرح أردوغان أن العالم الراهن ليس فيه سوى قائدين كبيرين هما الرئيس الروسي بوتين وأردوغان نفسه، بما يرمز لمشاعر الإعجاب الجلية التي يوليها أردوغان للزعيم الروسي، الذي هو أول من بلور نموذج القومية المحافظة الجديدة، وتبناها خطاً أيديولوجياً مقابل الليبرالية الغربية التي تتنكر لأولوية الأمة على حقوق الأفراد، وتجرد الدولة من ذاكرتها التاريخية، وتقلص نفوذها باسم السيادة في مجالها الحيوي والحضاري، الذي لا بمكن أن يُحصر في المعادلة الوطنية الضيقة. من هنا ندرك كيف سعى أردوغان في السنتين الأخيرتين إلى تقويض كل مراكز القوة المنافسة من مؤسسات دستورية وأجهزة قضائية وإعلامية وقوى دينية أهلية للتفرد بالسلطة، بحيث تتحول الآليات الديمقراطية الانتخابية إلى مجرد أدوات لإعادة إنتاج النظام وتأمين استمراريته. وهكذا نفهم كيف أن أردوغان يتبنى التحالف مع جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي ورقة للتدخل في المنطقة الشرق أوسطية من منطلق العودة إلى مجالات النفوذ التقليدية للدولة العثمانية، في الوقت الذي يتحالف في الداخل مع الأحزاب القومية اليمينية (حزب الحركة القومية على الأخص) في مواجهة القوى الليبرالية من الأحزاب السياسية التركية التقليدية. ومع أن أردوغان نجح في إقصاء القيادات العسكرية من المجال السياسي، وألغى الدور التاريخي للجيش في حماية طبيعة النظام السياسي «الجمهوري» العلماني، إلا أنه اتجه إلى عسكرة الحقل السياسي بإعادة قولبة المؤسسة العسكرية والأمنية بعد تصفيتها الواسعة إثر المحاولة الانقلابية الأخيرة بما ينسجم مع منطق القوميات المحافظة الجديدة في رهانها على القوة والانضباط من أجل مصارعة الخصوم الفعليين والوهميين في الداخل والخارج. الديمقراطية التركية التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي واستندت إلى التركة التحديثية التنويرية الأتاتوركية مع تحريرها من سمتها التسلطية ومصالحتها مع المجتمع الأهلي، تتعرض حالياً لأزمة بنيوية عميقة عبر عنها التصدع الخطير للمجتمع التركي، وليست الموازين الانتخابية قادرة على حل معضلة الشرعية التي يعانيها حالياً النظام السياسي.