رغم أن ستيف بانون خسر معركة المنصب، فأقيل قبل عشرة أشهر من وظيفته في البيت الأبيض، فإنه ربح حرباً أيديولوجية. فالقومية الشرسة المناهضة للهجرة والازدراء بـ«الدولة العمقية»، والانتقاص من قدر الحلفاء في الدول الديمقراطية.. أضحت من الدعائم الأساسية للإدارة الأميركية الحالية. وأضحت الـ«بانونية» صاعدة في السياسات الخارجية والداخلية، وداخل الحزب الجمهوري المطيع. فـ«كوري ستيوارت»، الكاره للأجانب، والمرشح الجمهوري لمجلس الشيوخ في ولاية فيرجينيا، يحظى الآن بتأييد الإدارة باعتباره واجهة للحزب الجمهوري «الجديد». أما السيناتور الجمهوري جون ماكين، المدافع عن المبادئ المحافظة، فتعتبره الإدارة خارجاً على الحزب. والقادة المفترضون مثل ميتش ماكونيل في مجلس الشيوخ، وبول ريان في مجلس النواب، فيتداعون بإذلال في صفوف المؤيدين. إنه انتصار لأيديولوجية أقرب إلى «البوتينية» منها إلى «الريجانية». ولإدراك مدى الهزيمة، علينا التفكر في ربيع عام 2017، عندما لم تكن تلك النتيجة تبدو حتمية. فحينئذ غادر بعض مَن وصفوا بـ«الحمقى»، مثل مستشار الأمن القومي مايكل فلين، البيت الأبيض، وتولى القيادة براجماتيون مفترضون مثل «أتش آر ماكماستر» كمستشار للأمن القومي، و«غاري كوهين» كمستشار اقتصادي، و«جاريد» و«إيفانكا» كمستشارين لما يمكن وصفه بـ«الوجاهة العامة»! وكانت هناك أحاديث عن التعاون مع الديمقراطيين بشأن البنية التحتية، وأراد الرئيس ترامب مساعدة «الحالمين»، ممن أُحضروا بلا ذنب عندما كانوا أطفالاً إلى الولايات المتحدة. وبدا أن هناك اتفاقيات دولية قائمة يمكن الحفاظ عليها، مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية واتفاق باريس المناخي، مع تعديلات تحفظ ماء الوجه. لكن لم يعد هناك الآن وجود لأية إشارة للحلول الوسط مع الديمقراطيين، وبات البيت الأبيض يُكشّر عن أنيابه، ويتأهب لتحفيز ناخبيه بالإشارة إلى «الأعداء» الذين يحددهم ويعيد اكتشافهم مراراً وتكراراً، ومن بينهم «الرياضيون الأميركيون من أصول أفريقية»، والصحافة الموصوفة كـ«أكبر عدو لبلادنا»، ورئيس الوزراء الكندي «جاستين ترودو» الذي وُصف بأنه «مخادع وضعيف جداً»، والمستشار الخاص «روبرت مولر» (الذي يدير خطة للنيل من المخالفين يقودها 13 من الديمقراطيين الغاضبين والمتناقضين). ومن الأعداء كذلك: السيناتور جيف فليك، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والقادة الديمقراطيون في مجلسي النواب والشيوخ، والمدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، والمدعي العام ونائبه.. إلخ! غير أن «البانونية» ليست مجرد «حالة من التذمر»، وإنما تنطوي على ازدراء عميق للديمقراطية. وعندما رفض الرئيس ترامب توقيع بيان مشترك مع قادة 6 من الدول الصناعية الديمقراطية الأخرى، ثم كال المديح لزعيم كوريا الشمالية («الرجل الحاسم والذكي جداً»)، لم يكن ذلك مجرد دلالة استفزاز شخصي. وتنطوي «البانونية» أيضاً على مبدأ «أميركا أولاً»، الذي يقوم على فلسفة «لكي أفوز لا بد أن يخسر الآخر»، وهي التي تُطبّق حالياً في حروب الرسوم الجمركية ضد الشركاء التجاريين للولايات المتحدة. وتشمل كذلك تحقيراً للمهاجرين، ولكل الغرباء من أي نوع. بالتأكيد يمكن أن نؤيد خفض مستويات الهجرة، لكن دون أن نكون عنصريين. أما تأييد سياسة فصل أطفال المهاجرين عن آبائهم، كما نراها اليوم على الحدود الأميركية المكسيكية، فلا يتسق إلا مع رؤية عالمية تعتبر أن المكسيكيين والسلفادوريين أقل إنسانية بدرجة ما، وأقل قيمة، من الأميركيين البيض. ويبقى السؤال: كيف سادت «البانونية» دون وجود «بانون» في البيت الأبيض؟ ربما بفضل أولئك المؤمنين بها، والذين ما يزالون يشغلون مناصب في الإدارة، مثل «ستيفن ميلر» (في قضايا الهجرة) و«بيتر نافارو» (على الصعيد التجاري). *كاتب أميركي يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»