عجرفة القوة، وكاريزما الزعامة، دفعتا الرئيس الإثيوبي الراحل «ميلس زيناوي»، وبعضاً من فترة حكم الرئيس «ديسالين»، السياسة الإثيوبية نحو حالة زعامة إقليمية واضحة عقب اتفاقيات جنوب السودان في «أديس أبابا»، أو القوة الضاربة في «الصومال» بعد انهيار بنية الدولة فيه، أو محاولة إخضاع «إريتريا» عبر احتلالها لبعض أراضيها والالتفاف على جيبوتي كمنفذ جديد لها. كما فرضت التشدد الملفت في موضوع «سد النهضة» بهدف كشف ضعف مصر أمامها في الإقليم. وقد كتبت هنا أن مصر والسودان مسؤولتان بشكل ما عن هذا التدهور في وضعهما مع إثيوبيا، كما كتبت أن أزمة مياه النيل، و«سد النهضة»، مسؤولية عربية ومسؤولية مباشرة للذين يقدمون الأموال لإقامة السد. مع أن هذه الزاوية كان يمكن أن تكون دائماً قناة مساعدة لمصر في مشكلة السد، ويبدو أن التعنت الإثيوبي الإمبراطوري لم يساعد على إحداث اختراقات في الموقف الإثيوبي. لكن عناصر القوة المفتعلة أو الحقيقية في الحالة الإثيوبية لم يكتب لها الاستمرار، بل بدأت بالأزمة الداخلية باضطراب الموقف بين «الشعوب الإثيوبية» إلى درجة الانتفاضات المباشرة ضد الحكم القائم وبين عساكره وأقاليمه بما هدد البنية الامبراطورية تهديداً مباشراً، لولا نجاح الدبلوماسية الإثيوبية المعروفة منذ الإمبراطور «هيلا سيلاسي» حتى الرئيس «زيناوي» في السيطرة على الموقف، وفرض المصالحات الداخلية إلى حد الاتفاق مؤخراً مع الرئيس «ديسالين» على الاستقالة، ليأسه من القدرة على مواجهة التوترات داخل إثيوبيا أو محيطها الخارجي، الذي لعبت فيه التطورات الدولية أو التداخل مع الأقاليم المجاورة دوراً جديداً يكاد يأخذ بخناق إثيوبيا الآن، إنْ لم تغير سياستها الداخلية والخارجية على السواء. وهو ما أصبح أمراً واقعاً الآن تقريباً. ففي الداخل بدأ تصالح قوتيّ الثورة الإثيوبية (الجبهة الشعبية..والحركة الثورية..) بتركيبة السلطة الجديدة التي تابعناها، واعتبر وضع رئيس الوزراء «آبي أحمد» حلاً وسطاً لها، فسارع الرئيس الجديد بتحذير العسكريين من التفكير في هيمنة مهددة، كما سارع بالاتفاق مع صناديق التمويل ومصادره على إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، بوقف سيطرة الدولة على عديد من المشروعات التي بدت ساحة مناسبة للاستثمارات الأجنبية ليرتاح له الغرب والخليج على السواء. ويُشكل هذا التصالح الداخلي والاقتصادي، مدخلاً لحل مشاكل الوضع الإثيوبي في الإقليم المحيط، والتعامل مع سياسات المحيط الدولي أيضاً رغم صعوبات هائلة في هذا الصدد. وفي تقرير حديث صادر عن معهد «الحياة والسلام» في أبريل 2018 بالسويد، فوجئت برصد شامل لشبكة شديدة التعقيد، أصبحت تحيط بإثيوبيا...وتفقدها نفوذها السابق أولاً ثم تجبرها على تصالحات سريعة ثانياً، والخضوع لاعتبارات خارج الصندوق القديم وتشنجاته، مما جعل المصريين يتوقعون سرعة إزالة ذلك لمخاوفهم من السد. والتصور الناشئ من أن أريحية استقبال رئيس الوزراء الإثيوبي، ووعوده تشي «باتفاق مصالحة» أو تراضٍ حول «سد النهضة»، مثلما حدث في إشكاليات إثيوبية أخرى أهمها الاتفاق مع إريتريا على تصفية قضية القوات الإثيوبية على حدود إريتريا في «بادمي». قام رئيس الوزراء الإثيوبي بزيارات سريعة للدول المجاورة (السودان/ جيبوتي/ كينيا، كما استضافت رئيس رواندا، والرئيس الإسرائيلي) حتى وصل للقاهرة في منتصف يونيو الجاري. وإزاء قلق إثيوبيا بشأن «أمنها القومي» بانشغال حوالي تسع موانئ مهمة على المحيط الهندي والبحر الأحمر بإقامة القواعد العسكرية البحرية الأجنبية في «جيبوتي» والصومال وصوماليلاند (المنفصلة عن الصومال)، فإنها اتجهت نحو عملية إعادة ترتيب علاقتها مع جيبوتي، ومحاولة التعامل لخلق منافذ لها في «بربرة» بصوماليلاند، وتعقيدها باتفاق مع هيئة موانئ دبي، لتسهيل المشروع الإثيوبي لبناء قوة بحرية تجارية، وفي هذه الدوامة الإقليمية (عسكرية وتجارية) دخلت على الخط مساعي بعض الدول لإنشاء أكبر القواعد في معظم هذه الموانئ لتحقيق طلب مساعدة بعضها في حرب اليمن، وإبعاد المنطقة عن مخاطر التسلل الإيراني، مما يرشح لاقتراب إثيوبيا من إيران بشكل جديد (يشمل إسرائيل أيضاً)، وتشكل العلاقة مع الصومال أهمية كبيرة، لكن أهمية الوجود في «بربرة» في صوماليلاند الانفصالية تربك علاقات إثيوبيا أيضاً، وكذا، بقيت احتمالات تشدد إريتريا مع أهمية «عصب»، والتوازن فيها بين معسكرات الخليج العربي ارتباكاً شديداً لإثيوبيا، هذا عن وهن النظام الإثيوبي كقوة إقليمية صاعدة وحدها في إقليم يضم أعضاء منظمة «إيجاد» التسع.. التي يبحث كل منها عن مكانته الخاصة فيها. وهنا يدخل العنصر الدولي والخليجي كعنصر كاسح جديد، لأن وجود دول كبرى أيضاً مثل أميركا وفرنسا والصين وتسع دول أخرى غربية وخليجية في «جيبوتي» من كافة الاتجاهات، وفي تشابك يحتاج لدراسة خاصة، ‏? ?سيؤدي? ?بإثيوبيا? ?إلى? ?نفق? ?شبه? ?مسدود? ?إلاّ? ?في? ?اتجاه? ?المصالحات? ?، ?مما? ?ننتظر? ?أولى? ?مظاهرها? ?في?? التهدئة? ?مع? ?القاهرة.