عندما توالت بدايات ذلك التحول العظيم في الوضع الدولي منذ عام 1989 وما بعده، بانتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي وتمزقه، وزوال خطر الحرب النووية بانتهاء الثنائية القطبية، وتوقعت يومها تنبؤات يقينية الانتشار والتصديق، بأن المستقبل قد حُسم للرأسمالية والعولمة اقتصادياً، وللديمقراطية والليبرالية سياسياً. ولكن ما أن انتهى القرن الماضي وبدأ الجديد، حتى اختار التاريخ مجرى آخر! كانت الفرضية سنة 1990 أن التاريخ نفسه «قد انتهى»، واقتصاد السوق بالمنهج الغربي انتصر بلا منافس بعد اليوم، وأن الليبرالية التي تدق أبواب التاريخ بقوة.. هي المصير. واليوم، مع صمود الرئيس «ترامب» في الولايات المتحدة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وطغيان توجهات «الزعامة» على حدود الرئاسة، وتعاظم المشاعر القومية والشعبوية والتوجهات الانفصالية في الدول المتقدمة والمتخلفة والوسطى، وارتفاع الجدران في وجه المهاجرين واللاجئين.. اختلف «المشهد العالمي» بشكل لا يصدق. كيف يناقش مفكرو الغرب وراسمو السياسات المستقبلية هذا المصير غير المتوقع لأحلام الكثير من الأكاديميين والمحللين الاستراتيجيين؟ مجلة الشؤون الدولية International Affairs البريطانية تصدى باحثوها للإجابة على أسئلة من قبيل: هل سيستمر النظام الليبرالي الدولي في ظل غياب القيادة الغربية؟ هل مفهوم الليبرالية هو المفتاح الرئيسي للنظام الدولي؟ كيف سيتغير النظام الدولي مع صعود دولة سلطوية قومية على المسرح العالمي مع ميل بعض الدول الليبرالية التاريخية إلى «الشعبوية اليمنية»؟ (السياسة الدولية، 212، أبريل 2018). اختار الباحث «عمر عبدالعاطي» عدة نشرات أخرى تناولت مأزق النظام الدولي ومنها تقرير مؤتمر ميونيخ للأمن Munich Security Report 2018، حيث يبدي أحد الباحين خوفه على النظام الذي لا يواجه فقط تهديدات الخصوم، بل وكذلك الأصدقاء والمؤسسين له بعد الحرب العالمية الثانية، «فبدلاً من أن تقف الولايات المتحدة وأوروبا جنباً إلى جنب لحماية مكاسب سبعة عقود من التعاون أصبحتا أحد مصادر تهديده»! ويأتي هذا في مرحلة أصبحت الولايات المتحدة وحلفاؤها أقل قوة، كما تراجعت أوروبا واليابان. غير أن هذا الباحث الاستراتيجي، «إيكنبري» G. Jhon Ikenberry لا يتوقع رغم ذلك تفوق الصين مثلاً على الغرب، أو العودة إلى مرحلة تعدد الأقطاب، «لكنه يراه مجرد انتشار تدريجي للقوة بعيداً عن الغرب، حيث ستظل الولايات المتحدة وحلفاؤها القدامى جزءاً أصغر من العالم كله، وهذا سيحد من قدرتها على دعم النظام الدولي الليبرالي والدفاع عنه». ويؤكد «إيكنبري» أن مستقبل النظام الدولي الليبرالي يرتبط بقدرة الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك الديمقراطيات الليبرالية الرائدة. غير أن هذه الأنظمة والقوى الغربية الكبرى لن تنجح في هذه المهمة إلا إذا بقيت مستقرة، متحملة لمسؤولياتها القيادية، والدفاع عن قيمها، وتقديم نماذج تقتدى للمجتمعات الأخرى. وسيعتمد هذا النجاح أيضاً «على قدرة الولايات المتحدة والدول الأخرى على إعادة بناء قدرتها وإيجاد حلول لمشكلات القرن». ويرى جاك سوليفان «أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمثل بلا شك تهديداً حقيقياً لكل من الديمقراطية الأميركية والنظام الدولي، حيث إن سياساته الداخلية يمكن أن تجر الأولى إلى أزمة دستورية والخارجية إلى حرب تجارية مدمرة، أو حتى حرب نووية شاملة». ونحن نرى اليوم بداية تحقق نبوءة «سوليفان» بشأن الحرب الاقتصادية، ونرجو ألا نشهد الحرب النووية الشاملة، وبخاصة بعد التفاهم المفاجئ مع كوريا الشمالية. إن تراجع الهيمنة الأحادية الأميركية، يقول الكاتب، لا يعني نهاية القيادة الأميركية، كما أن الصين من جانب آخر لا تريد تغييراً جذرياً على المدى القريب في النظام الدولي الحالي، بل إن المؤسسات والنشاطات الاقتصادية الصينية «تكمل إلى حد كبير النظام الحالي وليس التهديد باستبداله». ومهما بدا من تصرفات وتصريحات الرئيس «ترامب»، فإنه اكتشف حاجته للنظام الدولي الحالي في مواجهته لكوريا الشمالية و«داعش» وتدعيم تحالفات أميركا الآسيوية. ويرى باري بوسين Posen في مقال بمجلة «Foreign Affairs» بعنوان «صعود الهيمنة غير الليبرالية»، أن الرئيس ترامب تبنى استراتيجية الهيمنة غير الليبرالية، حيث اختار «تعزيز القوة العسكرية الأميركية دولياً، لكنه اختار التخلي عن تصدير الديمقراطية». ولا يفتر في المقابل اهتمام الإدارة الأميركية ببناء القوة العسكرية وتنميتها، ولا تزال ميزانية الدفاع تفوق ما لدى جميع جيوش المنافسين للولايات المتحدة، كما يقول «آدم بوسين»، ويضيف عن السياسة الاقتصادية للإدارة: «تقوم استراتيجية ترامب «الهيمنة غير الليبرالية» على التخلي عن المؤسسات الاقتصادية الدولية، لأنها - من وجهة نظره - تضر بالمصالح الاقتصادية الأميركية، ولعدم قدرة واشنطن على السيطرة بشكل كاف على المؤسسات الدولية لضمان مصالحها. كما انسحب من الشراكة عبر المحيط الهادي، وأطلق إعادة التفاوض على اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا). وبدلاً من مثل هذه الاتفاقيات، أعلن ترامب عن تفضيله للترتيبات التجارية الثنائية، التي يزعم أنه من الأسهل مراجعتها وتطبيقها، وكذلك التراجع عن استراتيجية بناء الديمقراطية في الخارج، لأنها كانت مكلفة وغير ناجحة من وجهة نظره. كما تخلى ترامب أيضاً عن الترويج للديمقراطية كهدف للسياسة الخارجية». وعنونت الباحثة «رغدة البهي» في الدورية نفسها، السياسة الدولية، بحثها بـ «موت الديمقراطية الأميركية في العام الرئاسي الأول لترامب». وكتبت أن ديفيد فروم Frum في كتابه «فساد الجمهورية الأميركية»، يهول من الأخطاء الكارثية لحكم ترامب، والتي يُجملها في اصطلاح تعبير «موت الديمقراطية»، وهو ما يحدث جراء ضياع الديمقراطية الدستورية وخرق أحكامها لتحقيق أهداف عاجلة على نحو فوري». ويجادل الكاتب، تقول الباحثة، بأن «الانهيار العالمي للديمقراطية» كان شأناً يخص الشعوب الأخرى بخلاف الشعب الأميركي، ولكن مع وصول دونالد ترامب للرئاسة، لم يعد الأمر كذلك. غير أن الباحثة تنبه القراء بأنه «يظل مبكراً تقييم رئاسة ترامب التي أنهت بالفعل عامها الأول، وقد تنبأ بعضهم بعدم استكمال ترامب لفترته الرئاسية الأولى». بقيت «الليبرالية» طويلاً ممثلة في «حرية الاقتصاد والفكر».. وربما أدخل الرئيس عليهما.. «حرية الممارسة»!