يبدو عمل هيئات ومنظمات حقوق الإنسان من حيث الشكل المعلن مثالياً ومطلوب إعلامياً في هذا الزمن أكثر من الماضي، لأنه يغازل العاطفة الإنسانية المشتركة في عصر عولمة الأخبار وسرعة نقلها، وبخاصة في ظل التأثير الطاغي للأدوات الإعلامية الجديدة التي تتيحها شبكة الإنترنت. كما يقدم الملف الحقوقي تسويقاً سياسياً لتجميل صور الدول الغربية أمام مواطنيها. لكن بالمقابل هناك وجه آخر لهذا النشاط الدولي الذي تتحكم به أجهزة استخبارات وحكومات لديها أهداف انتهازية من وراء استخدام لوحة حقوق الإنسان، بدليل أن تعاطيها مع ملفات دولية كثيرة يتسم بالزيف والنفاق والكيل بأكثر من مكيال، وصولاً إلى التناقض التام مع استخدامها للملف الحقوقي الذي يتحول إلى ورقة ابتزاز لا أكثر. وسبق أن شهد العالم خلال الفترة الماضية الكثير من القضايا الإنسانية الساخنة، ورغم ذلك لم تتحرك تلك المنظمات الحقوقية المشبوهة، ولم تتفاعل بالقدر الذي يتوازى مع حجم التهديدات التي طالت حياة مجتمعات تعرضت للتنكيل والإبادة. إذ يكفي الإشارة إلى قضية مسلمي الروهينغا في ميانمار، حيث أدت المذابح بحقهم إلى نزوح نحو مليون إنسان، بينما اكتفت الأمم المتحدة بوصف مأساتهم بأنها الأسوأ في العالم. وهناك قضايا أخرى لا يمكن حصرها لم تقترب منها المنظمات الحقوقية الدولية، بينما يتم تحريك تلك المنظمات وفق أجندة سياسية لإصدار تقارير موجهة لتحقيق أهداف لا تراعي أمن واستقرار الدول وخصوصياتها الثقافية. ولا ننسى أن بعض تقارير تلك المنظمات وقفت إلى جانب مجموعات تخريبية تعتمد أنشطتها على إرهاب المجتمعات واستغلال الدين لأهداف سياسية. كما لا تتورع تلك المنظمات عن وضع أسماء إرهابيين على لوائحها وتطالب بالإفراج عنهم بعد صدور أحكام قضائية في جرائم يعاقب عليها القانون! الحقيقة المؤكدة أن الكيانات المشبوهة التي تدعي الحرص على حقوق الإنسان تعتبر أدوات استخباراتية يتم توجيهها من وراء ستار. وحتى وقت قريب لم يكن أحد يجرؤ على مناقشة هذا الموضوع والتساؤل بشأن مدى ارتباط المنظمات الحقوقية بالسياسات الدولية الفاسدة. بل إن الكثير من الأوهام المتعلقة بالمجتمع الدولي وأخلاقياته سقطت بالتدريج في اختبارات إقليمية ودولية كثيرة. وبعد عقود من توظيف حقوق الإنسان من قبل المركزية الغربية لابتزاز الدول والشعوب، بدأت الحقائق تتكشف أخيراً وتظهر حجم ومقدار الخديعة التي يتعرض لها العالم بفعل الأداء المشبوه لمنظمات متعددة التمويلات والولاءات تحت مسمى حقوق الإنسان، بينما نجدها تصاب بالخرس أو تكيل بمكيالين مختلفين وتتبدل معاييرها، طبقاً لتوجهات تتحرك في ظلها الأذرع الحقوقية التي أصبحنا نعرف أنها مجرد أداة من أدوات الابتزاز الدولي، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش. فتاريخ المنظمات الحقوقية غير منفصل عن عمل المخابرات العالمية وزمن الحرب الباردة التي لعبت على كل الحبال خلال الصراع بين المعسكرين المتناقضين أيديولوجياً، وكانت المنظمات الحقوقية إحدى أدوات ذلك الصراع. وفي هذا السياق يمكن اعتبار انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة باعتباره متماهياً مع الواقع كما هو، وكاشفاً حقيقة أميركا تريد استخدام ملف حقوق الإنسان لمصلحتها فقط، بينما ترفض توجيهه ضدها أو ضد الدولة العبرية. وفي مبررات الانسحاب الأميركي جاء على لسان المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، أن الانسحاب تم بسبب «انحياز ضد إسرائيل»، واصفةً المجلس بأنه منظمة «منافقة وأنانية وتستهزأ بحقوق الإنسان». ورغم الاختلاف مع الكثير من التوجهات والقرارات التي يتبناها ترامب، فإن بعض قراراته تتسم بالوضوح والتعاطي مع الأحداث بشكل مكشوف ودون احتياطات دبلوماسية كما كانت تفعل الإدارات السابقة، مما يعني أن انسحاب أميركا من مجلس حقوق الإنسان اعتراف ضمني بعدم مصداقيته. وفي هذا الإطار نتذكر التصريح الشهير لرئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون الذي قال «إذا تعلق الأمر بالأمن القومي لبريطانيا فلا تحدثني عن حقوق الإنسان». وتكرر المعنى ذاته في التصريحات النارية لرئيسة الوزراء البريطانية الحالية تيريزا ماي، التي قالت، العام الماضي، إنها ستمزق قوانين حقوق الإنسان في بلادها من أجل محاربة الإرهاب. وكل ما سبق يكشف خداع المنظمات الحقوقية ويسقط تقاريرها الانتقائية من حسابات الشعوب.