لا يوجد حدث في العالم يجتذب هذا العدد الكبير والمستغرق تماماً في المتابعة من الجمهور مثل بطولة كأس العالم لكرة القدم التي انطلقت في روسيا يوم الخميس الماضي، والتي يشارك فيها 32 منتخباً قومياً لكرة القدم. وعلى مدار شهر وعلى امتداد العالم، سيتراجع الاهتمام بالأحداث الأخرى بخلاف كأس العالم، ومن يذهبون إلى العمل سيؤجلون بعض الأعمال، وسيختفي السياسيون خلف القمصان القومية وسيتوقف الزمن لمدة 90 دقيقة على الأقل في كل مباراة. وفي حقبة سابقة كان كأس العالم يقوم بدور مكان لتلاقي الثقافات الغريبة والأمم المتنافسة. فقد كتب الصحفي البريطاني «تيم فيكري»، وهو خبير حالياً في كرة القدم في أميركا الجنوبية ويتخذ من البرازيل مقراً كيف أثارت رؤية ملصق بسيط للاعب البيروفي رامون ميفلين، قبل بطولة عام 1970، حب استطلاعه وهو طفل عمره خمس سنوات نشأ في ضواحي لندن. وتحدث فيكري عن الصورة المثيرة للاعب صاحب عظام الوجنتين المرتفعتين وقميصه البيروفي ذي الوشاح الأحمر على خلفية من جبال الانديز قائلا إنه «لم يكن لدي ألبوم ألصقها فيه، لكن الصورة ظلت ملتصقة بذهني دوما. هذه الصورة من بيرو كانت ترمز إلى كل شيء غريب ومشوق في كرة القدم الدولية». والآن لم يعد كأس العالم استعراضاً غريباً للأجانب بقدر ما هو تعبير عن خبرة عالمية مشتركة. وفي القرن الحادي والعشرين، يظهر كبار نجوم الرياضة جميعهم في النوادي نفسها الغنية بالأموال ويظهرون في ألعاب الفيديو نفسها التي يجري الترويج لها عالميا. والمشجعون الشباب قد لا يتخيلون مشاركة منتخب بيرو في بطولة هذا العام لكنهم يعرفونه على الأرجح. وبالنسبة للجمهور العام المتابع، تأتي المنتخبات القومية في المرتبة الثانية بعد الدوريات الاحترافية التي تحظى بشعبية والتي صنعت جمهورا كبيرا حول العالم. فقد نجد كينيين وهنودا يشعرون بدرجة من الولاء تجاه فريق في مانشستر تضارع درجة الولاء التي يشعر بها سكان مانشستر للفريق وربما يشعرون بولاء أكثر لهذا الفريق مما يشعرون به من ولاء لفريق أضعف بكثير في بلادهم. وتعكس شخصية المنتخبات القومية نفسها واقعاً يتجاوز الدولة الأمة. ففرنسا وهي واحدة من المنتخبات المفضلة في البطولة استقت معظم قوتها من أقلياتها وجماعات المهاجرين فيها. وفي المقابل نجد الغالبية الكاسحة من لاعبي المنتخب المغربي ولدوا في أوروبا. وكتب شقيقي التوأم كانشك ثارور لصحيفة نيويورك تايمز يقول «البطولة ليس عرضاً للهويات القومية المختلفة بقدر ما هي تذكير بعبور الأفكار والابتكارات التكتيكية في كرة القدم الحدود». وفي الوقت الذي يدافع فيه الشعبويون عن مستقبل قومي، يستطيع كأس العالم أن ينقل صورة لتعددية العالم. وكتب كانشك يقول «نجاح مهرجان الأمم هذا يعتمد كثيراً على الطاقات التي تعبر الحدود وتخلع الناس من جذورها القومية. إنه يوحي بأن هناك في الواقع تشعب زائف بين العولمة وفكرة سكان البلد الأصليين. فمن الممكن تماما في كرة القدم والحياة أن يكون المرء ممثلا فخورا لبلده وعالمياً في الوقت نفسه دون أن يكون له حيلة في ذلك». والمثال الأوفى على هذا يضربه لنا لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح. فهو يحظى بشعبية كبيرة للغاية في مصر. وبسبب إنجازاته في فريق «ليفربول» شمال غرب انجلترا حظي صلاح أيضاً بإشادة عبر العالم العربي، وأصبح المشجعون الإنجليز يترنمون باسمه ويشيدون بديانته الإسلامية. وكتب «اشفين مولاي» في صحيفة «واشنطن بوست» يقول إن صلاح «أصبح لاعباً يمثل قوة توحيد عالمية في عالم يتزايد انقساما». لكن صلاح أصبح بيدقاً أيضاً في لعبة السياسة، التي تلقي بظلالها على الرياضة العالمية. فقد أثارت صور له مع الزعيم الشيشاني رمضان قديروف- رد فعل دولي معاكس. وبقدر ما تستطيع كرة القدم وكأس العالم بالتحديد توحيد العالم فإنها تذكرنا دوما بعدم المساواة والفساد وإساءة استخدام السلطة. فمنذ بطولة كأس العالم السابق، واجه الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) تحقيقات في صفقاته المشتبه بها وفي جشع كبار المديرين فيما يبدو. وجاءت سحب القضايا الجيوسياسية حول كأس العالم. أعمال العنف السابقة التي ارتكبها مشجعو كرة القدم الروس والعنصرية المتوطنة في البلاد، توارت جميعا أمام شغف المشجعين من الخارج. وإيران لم تعد تحصل على الأحذية الرياضية من شركة نايك لأن الشركة الأميركية تخشى استئناف العقوبات على الجمهورية الإسلامية. والأرجنتين وصلت إلى روسيا تدفعها عاصفة دبلوماسية بعد إلغاء مباراة إحماء مع إسرائيل احتجاجاً فيما يبدو ضد معاملة إسرائيل للفلسطينيين. وفي الوقت الذي يرفض فيه الرئيس دونالد ترامب تعددية الأقطاب ويتشاحن مع حلفاء أميركا، لم تستطع الولايات المتحدة التأهل حتى للبطولة. ومهما يكن من السحب التي تتجمع فوق كأس العالم، فربما تتبدد بسبب المتعة والأمل التي تبثها المباريات في نفوس المتابعين. وكتب "إدواردو جاليانو"، المؤلف والمثقف الراحل من أورجواي يقول «مازالت كرة القدم هي فن غير المتوقع. فالمستحيل يحدث حين لا يخطر على البال تقريبا والأقزام يعلمون العملاقة الدرس والرجل الأسود مقوس الساقين ضئيل الحجم يجعل الرياضي المنحوت تمثالاً في اليونان يبدو مضحكاً». *كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»