ما حدث في الأردن في الأيام القليلة الماضية، بحاجة إلى وقفات في ضوء ما يجري من مياه السياسة الخفيفة وليست الثقيلة في جل أنحاء العالم العربي المبتلى بخريف «الربيع» الذي مر على بعض دوله مرور غير الكرام. وطبعاً، كان للاقتصاد الصوت المدوي في الشارع، من الضريبة على الدخل وزيادة أسعار المحروقات، وأكثر من ألف سلعة طالها يد الارتفاع ومن أهمها على الإطلاق، الخبز، وما أدراك ماالخبز ومفعوله في قلب موازين السياسة، وليست الثورة الفرنسية منا ببعيد، عندما اشتكى الشعب من عدم توافر الخبز، فأوصتهم الملكة بتناول «البسكويت» بدل الخبز، فكانت النتيجة ثورة عارمة. وحتى لا للخبز القول الفصل فيما يجري على الساحة الأردنية من حراك، فقد هبت النخوة العربية بسرعة للقيام بواجبها تجاه المملكة الأردنية الهاشمية، من قبل الإمارات والسعودية والكويت لوقف هذا النزيف الاقتصادي الذي كاد أن يصيب الطبقة الكادحة والمتوسطة في الصميم. وهو جانب يقلل من جنوح الاقتصاد الأردني نحو التراجع، ويساعد على إعادة ترتيب وتوزيع هذا العون العاجل في أهم مفاصل الحياة اليومية للشعب في أصعب ظروفه. والجانب الآخر لهذه الأزمة التي أريد لها أن تأخذ ذات مسار «الربيع العربي» الذي وقع على رؤوس بعض الدول العربية، قد يكون أشد وقعاً من رجوم الشياطين. إلا أن حكمة الملك عبدالله منذ 2011 كانت لهم بالمرصاد فلم ينجر الأردن إلى حيث انجر بعض الدول ولا زالت إلى قلب الفوضى. فالمس باستقرار الأردن، كالمس بسلك كهربائي عار من الغلاف الخارجي الواقي من الأذى، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي تُعد قطب رحى السياسة العربية والعالمية في آن، فالأردن يقع من كل ذلك موقع الدولة الوازنة في صلب هذه القضية التي في حلها العادل، حلاً للكثير من الأزمات التي يعاني منها العرب منذ موجة الاستقلالات المتوالية عن الاستعمار الذي امتص دماءهم قبل ثرواتهم. الأردن هي الدولة الوحيدة التي كانت شاهداً ودافعاً لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، عندما حضر الملك حسين رحمه الله لحظة الولادة التاريخية لها عام 1964، بل حتى عندما كان حاضراً الاجتماع التاريخي مع الطرف الإسرائيلي والفلسطيني في العام 1947 للموافقة على إعلان دولة فلسطينية على 50% من إجمالي الأراضي الفلسطينية، وقد رفض الطرف المعني مباشرة بهذا العرض، رغم دفع الملك حسين الفلسطينيين للقبول مبدئياً بذلك، ثم الكفاح للمطالبة بالبقية وكانت فرصة ذهبية آنذاك وخاصة أن الطرف الإسرائيلي لم يمانع كما هو الوضع اليوم الذي تسعى فيه إسرائيل للدفع بالأردن وطرحه كوطن بديل للفلسطينيين، وهو أمر لو حدث بالقوة الإسرائيلية الغاشمة، بعيداً عن المبادرة العربية المعلقة بحبل مشنقة القضية الفلسطينية برمتها، فإن المنطقة العربية ساعتها تكون قد مست ذلك السلك الكهربائي الشائك، وهو ما يعني إدخال الأردن من البوابة الخلفية «للربيع» الذي قاومته المملكة بحكمتها الهاشمية الرصينة. أعتقد بأن هذه هي «الصفقة» التي يُراد تمريرها وفق سيناريوهات متعددة الفصول، وبطرق ملتوية لا تقل خطورة عن الطرق الملتوية التي أنشأتها إسرائيل في فلسطين الكبرى. لمنع واستحالة قيام دويلة فلسطينية صغرى، كما تم الترويج لها منذ إعلان دولة إسرائيل، وهي الدولة الوحيدة بلا حدود جغرافية مرسومة معالمها وتفاصيلها مثل أي دولة اعتبارية معترف بها عالمياً. فالأردن من حقه أن يدافع عن هويته وكيانه، وقلقه مشروع في زمن عربي تموج به الفوضى وترج جباله من حوله رجاً.