ينقسم الناس حسب الدراسات النفسية وأنماط الشخصية إلى أصناف مختلفة بناء على نظرتهم لماضيهم. الصنف الأول هو ما أسميه الشخصية الماضوية النادمة وهم المتحسرون على ماضيهم، سواء للفرص التي ضاعت منهم أو للأخطاء التي صدرت عنهم. وتتمحور حياة هذه الشخصية حول الألم بكل معانيه والمعاناة المرتبطة به، ويعتقد أصحاب هذه النظرة للماضي، على أنهم بهذا يحسنون صنعاً. وفي حقيقة الأمر أن هذا السلوك يؤثر سلباً على مجريات حياتهم في الحاضر ولا يجعلهم قادرين على التخطيط السوي لمستقبلهم، هؤلاء البشر يعيشون حياة المآسي في فكرهم، ويعانون من أزمة النفسية المحبطة، وما يصاحبها من أمراض تقودهم في النهاية إلى الموت البطيء، لأن نفسيتهم المحبطة تجعل قواهم العقلية والبدنية تميل إلى القنوط والكسل والدعة. الصنف الثاني هو الشخصية المستقبلية المتوترة، وهذا النمط من البشر يفكر كثيراً في المستقبل، ويحاول أن يخطط له بكل تفاصيله، فحياته أقرب لخارطة طريق تتجاهل الواقع كي تقفز إلى المستقبل بصورة فيها من الضبابية ما يجعله غير قادر على العيش بطريقة سوية. هذا النمط من الناس لا يستمتع بالحياة التي هو فيها، فجل وقته مرتبط بهموم المستقبل وتحدياته، وبين الصنف الأول والثاني ارتباط خفي. الأول يتمحور حول الماضي بطريقة سلبية تفقده الواقعية والاستفادة من الفرض المتاحة اليوم. الصنف الثاني اهتم بمستقبله أكثر من اللازم مما أعماه عن واقعه الذي يعيشه، فأضاع نفسه في فلسفات المستقبل وتنظير الاستراتيجيات، لكن واقع حياته في تدهور مستمر. لو عكسنا أنماط الشخصية التي تطرقنا لها على الدول والأمم لرأينا تطابقاً واضحاً بينهما، فهناك دول ماضوية تعيش إما على أمجاد أسلافها، أو أن شعوبها نادمة على الفرص التي ضاعت منهم، أما الصنف الثاني من الدول فهي تلك التي اهتمت بخطط المستقبل وبنت على الورق استراتيجيات تجاوزت كل التوقعات، وحطمت جل الطموحات، ومن يطلع على مخرجات أفكارهم يصاب بذهول ومن دقة ما كتب وروعة ما تم التخطيط له، لكن لو نظرت إلى حياة الناس اليومية في تلك المجتمعات لرأيت أنهم ينقلبون مما هو سيّء إلى ما هو أسوأ منه، فهم يعيشون بين حزنهم على ماضيهم وتحسرهم على عدم قدرتهم تحقيق مستقبلهم. هذا الأمر جعلهم يعشيون واقعاً هو أقرب للانتحار البطيء، فهناك فيروسات دقيقة تنهش أسس تلك المجتمعات مما يُعجل بانهيارها. الإنسان الماضوي لا يعرف التخطيط لمستقبله ولا يجيد العيش في حاضره، عندما قال العربي: اقرؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر.... ضلَّ قومٌ ليس يَدْرُون الخَبَر لم يقصد بذلك أن يكون التاريخ مكاناً كي نعيش فيه، أو نعشقه لدرجة أنه ينسينا الواقع، ففي التاريخ عبر يتعلم منها العقلاء فنون العيش السوي، وحسن استثمار الواقع لبناء المستقبل. وفي المقابل، فإن التخطيط للمستقبل له أدبيات متعارف عليها، لكن المستقبل لا نملك كل متغيراته، ومن هنا وجب على الإنسان التركيز على واقع حياته، وسبل تطوير هذه الحياة بصورة عملية بعيداً عن التنظير الفكري الذي يتجاوز حدود الواقع، ويجعل الإنسان محاطاً بالإحباطات لأنه غير قادر على بناء واقع عملي له. أرجو ألا يُفهم من طرحي أنني ضد التخطيط للمستقبل، أو أنني محبط من الواقع العربي لدرجة أنني لا أرى فيه بصيص أمل، لكني أحاول أن أكون أقرب للواقع مني للخيال. الدول التي نجحت في مسيرتها التنموية هي التي حققت للإنسان ما يجعله سعيداً في حياته، فلا فائدة ترجى من خطط على ورق لا يصدقها الواقع المعاش، الموازنة بين عبر الماضي وخطط المستقبل، تجعلنا أقرب للحياة السعيدة.