كالعادة كل عام يأتي رمضان، وتزداد الانشغالات بهموم الدنيا وشؤونها اليومية، لاسيما توفير الاحتياجات اللازمة، وهي في الحقيقة كماليات زائدة، رغم ازدياد الأسعار. ويزدحم الناس أمام الأسواق، ويقفون بالطوابير، بعضهم يشتري أكثر مما يحتاج، وقد أصبح موضوع حديث الغالبية هو الأسعار والمقارنة بينها وبين الأسعار في مراحل سابقة، وفي الوقت نفسه الحنين إلى تلك المراحل. وفي الأحياء تصدح الأغنية الخالدة «رمضان جانا وفرحنا له»، و«وحوي يا وحوي»، وموائد الرحمن ممدودة من الأغنياء إلى الفقراء، والوجبات المخفضة تباع في المجمعات الاستهلاكية، وزكاة الفطر يجمعها أهل الخير ويدفعها أهل الغنى تزكيةً لثروتهم وتحليلاً لمصادر أموالهم. ويدور الفقراء، مثل الكناسين ورجال الصرف الصحي، على المنازل لأخذ ما تجود به النفوس؛ فهم من الغني ينتظرون ذلك كل عام. إنها مناسبة دينية عظيمة، تبدأ من انتظار الهلال، وحتى تلمُّس ليلة القدر، والاعتكاف في العشر الأواخر من الشهر. وهناك تمثيليات ومسلسلات رمضان التي هي حديث الناس، وأي النجوم كسب هذا العام.. والتي يقاطعها السلفيون لأن بها كثيراً من الرقص في الشهر الكريم! وتنتشر فوانيس رمضان، صينية أم محلية الصنع، ويقل انقطاع الكهرباء، ويخف ازدحام الطرق ليلاً. وفي نهاية الشهر الفضيل تبدأ معركة كعك العيد وأسعاره المرتفعة. ولا تستطيع بنت البلد أن تصنعه في المنزل لارتفاع أسعار الدقيق والسمن والسكر. ولا يستطيع ابن البلد شراء ما تعرضه المخابز الإفرنجية لارتفاع أسعاره. وبالتالي يصبح شهر رمضان شهر الفرح والغبطة والسرور، ولا شيء عن الأحزان والآلام والهموم! وماذا عن الأزمة الاقتصادية من جذورها، بما في ذلك انخفاض الإنتاج، ونقص الاستثمار، وتراكم الديون، وعدم القدرة على استرداد المليارات المهربة، والفساد الذي أصبح بنية اجتماعية سياسية ثقافية، وليس حوادث منفردة متقطعة تستحق العقاب والتشهير؟! فرحٌ بالمكسب الوقتي دون حزن على الخسارة الدائمة. وتستمر دورة المطالبات والاستجابة لها مثل زيادة المعاشات. وفي أواخر رمضان تأتي مشاكل الثانوية العامة؛ تسريب الامتحانات، وتطور وسائل الغش، وكيفية مقاومة الوسائل الإلكترونية الحديثة بعربات التشويش. وهل تبقى مكاتب التنسيق؟ وهل يبقى التعليم المفتوح الذي حوّل التعليم إلى تجارة وعلى رأسها بيع الكتب والمذكرات؟ وبعدها يأتي عيد الأضحى المبارك، وكيفية توفير اللحوم الحية أو المجمدة وأسعار الخراف المحلية أو المستوردة من الدول الأفريقية. وكل الجزارين يشحذون السكاكين. ومن بعدها الاستعداد للعام الميلادي الجديد، لتبدأ أجهزة الإعلام الغربية الترويج لوجود خلاف بين المسيحيين والمسلمين. فهل أصبح الاهتمام برمضان يعني نسيان الأوطان، وتحويل الإنسان فيها من فم ولسان إلى فم ومعدة؟ لم يعد المواطن العربي في كثير من الحالات يفكر في قضايا وطنه، بل أصبح مستغرقاً في شؤون حياته اليومية وشجونها. وفي اعتقادي أن الواجب في الوقت الحالي هو نشل هذا المواطن العربي من المجمعات الاستهلاكية، حيث الفراخ واللحوم والزيوت والأرز، وعربات توزيع المواد الغذائية.. وصرف انتباهه قليلاً ناحية الوطن الذي يعيش فيه وينتمي إليه. لا بد من الوعي بمخاطر محاصرة العالم العربي من الخارج، وتفتيت العديد من بلدانه داخلياً وفق خطوط الانتماء الطائفي لمكوناته المجتمعية. وبإضعاف العالم العربي وتفتيته، تملأ الفراغَ إسرائيل وتكسب الحربَ بلا حرب. *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة