إميل أمين* إميل أمين* ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ في شهر رمضان دعوة واضحة لابناء إبراهيم مهما اختلفت العقيدة بينهم إلى تعظيم الضرورات الإنسانية والتي تنتج السلام العالمي، خاصة حفظ النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ إميل أمين* ـ ـ ــ ــ ـ ـ ـ ـ لعل من أهم المزايا التي يفيضها شهر رمضان الفضيل على الذين يعملون في مجال الفكر والكلمة أنه يعطيهم فسحة من الوقت للتأمل في المعاني الروحانية والقيم الخلقية للإيمان والأديان وكيف يجب أن تُسخر لخدمة الانسان. ولعلنا لا نغالي إن قلنا إن السلام في الوقت الراهن يكاد يكون الفضيلة الغائبة، سيما وأن الحروب خلف الباب متربصة للكرة الأرضية بعد التوترات الأخيرة التي تجاوزت حد ما عرفته الإنسانية زمن الحرب الباردة. أما الشرق الأوسط فحدث عنه ولا حرج، ففيه من الجروح المفتوحة والحروب المشتعلة ما يجعل السلام أثراً بعد عين. هل يمكن للأديان أن تعود بالإنسانية إلى دائرة السلام الحقيقي المثبت للاستقرار والمعزز للتعايش البشري الخلاق؟ وإذا كان ذلك كذلك فأي طريق يمكن للمرء أن يمضي من خلاله في بحثه عن السلام المنشود سوى طريق الحوار والجوار بين أتباع الديانات التوحيدية من جهة، وبقية أتباع المذاهب الوضعية الأخرى من ناحية ثانية؟ يمكن إجمالاً تعريف السلام بأنه الحالة المقابلة للحرب والعنف، وهو كذلك سيادة أجواء الطمأنينة والسكينة والهدوء، عوضاً عن الخوف والقلق والاضطراب، والسلام هو الضد للخصام، والمفهوم المفارق للعنف اللفظي والجسدي سواء كان ذلك بين الأفراد أو الجماعات والدول. في شهر رمضان يقهر الشيطان، بل ويحبس ولا يكون له مجال للتأثير على البشر، وهذا هو ما قال به قبل ألف وخمسمائة عام أيضاً الفيلسوف والمفكر الأمازيغي أوغسطينوس، القوة الفكرية الضاربة في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وعنده أن الحرب حالة عرضية ستزول حين يستطيع مجتمع الإيمان أن يقهر عبدة الشيطان ويحقق السلام الأبدي. كتب أوغسطينوس كتابه الخالد «مدينة الله» تلك المدينة التي يسودها السلام ليل نهار، صيف شتاء، ما يجعلنا نتساءل بدورنا: هل يمكن لهذه المدينة أن تقوم على أرضنا المدججة بالسلاح النووي والرؤوس القادرة على إفناء البشرية عدة مرات؟ مدينة الله هي مدينة السلام التي تغلفها العناية الإلهية وتحيط بها من كل جانب، أما عن أبواب المدينة الكثيرة، فمفاتيحها معلقة في مبادئ الخير والعدل، وفي اتساق دائم أبدي مع النظام والغاية والعمد المبنية عليها، والأسس المرتكزة إليها قوامها الفضيلة الخاصة». أغلب الظن أن إمكانية نشوء وارتقاء مثل هذه المدينة على الأرض أمر شبه مستحيل كما يخيل للعوام، لكن بعض مفكرينا العرب والمسلمين الذين انفتحوا مبكراً جداً على الحوار مع بقية الأديان والمذاهب حدثونا على خلاف ذلك، وأخبرونا أن الحديث عن مدينة سماوية لم يكن إلا مجازاً، وأن مدينة الله يمكن للمؤمنين من كافة الأديان والطوائف والمذاهب أن يهيئوا الطريق إليها فهي أرضية للنموذج والمنهاج، لكن الفرق هو أن أهلها يحاكون عشيرة الملائكة، ويكون السلام باسطاً أجنحته على ربوعها. تدعونا القراءات القرآنية المعمقة في رمضان إلى التنبه لأمر مهم للغاية، وهو أنه وقبل أن تتنزل الأديان على الأنبياء كانت الفطرة الطبيعية التي خلق عليها الإنسان تؤكد رفض القتل والاقتتال، وضرورة تعلية مفاهيم السلام. هل يحتاج هذا الكلام إلى برهان أو دليل على صدقه وموضوعيته؟ المؤكد أنه ليس أدل على ذلك أفضل من الوصف التفصيلي للمعركة الأولى في تاريخ الإنسانية، عندما اقتتل ابنا آدم عليه السلام، وفي ذلك الوقت لم تكن هناك نواميس أو شرائع وضعية أو إلهية، غير أن الناموس الفطري الأول الذي سرى في جينات البشرية، كان يحوي دعوة حصرية للعيش في سلام، مع تحريم وتجريم العنف والخصام، ولهذا فإنه غداة قتل قابيل لأخيه هابيل، فر من على وجه الأرض حتى لا يقتله كل من يجده ووضع على جبينه علامة لهذا الغرض. يدعونا الشهر الفضيل للتأمل في الحكمة الربانية من ظهور الرسالات السماوية، ومن الدعوة إلى التعارف والتلاقي وإلى الانفتاح الخلاق على الآخر، وإلى شيوع وذيوع السلام حول العالم. في عقيدة كل يهودي ومسيحي ومسلم، لا يستقر العالم في نفسه، بل يصدر في كل لحظة من الخالق الواحد للجميع سبحانه، ومن عظمته الكلية القدرة، وما يفعله الإنسان كجزء من الخليقة هذه عليه أن يؤدي عنه حساباً أمام خالقه الذي سيرجع إليه. في شهر رمضان دعوة واضحة لأبناء إبراهيم مهما اختلفت العقيدة بينهم إلى تعظيم الضرورات الإنسانية والتي تنتج ولا شك السلام العالمي وفي المقدمة من تلك الضرورات: حفظ النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، حفظ العقل أي جعل الرشد والوعي الصادق هما النبراس، حفظ المال بمعنى صون الحقوق الشخصية لكل إنسان، حفظ الدين أي حرية كل إنسان في الإيمان بما يشاء، ستظل الأديان المرجع الأساسي والرئيس في ترسيخ مفهوم السلام العالمي، والذي لن يتحقق إلا من خلال دعوة ربانية لا اجتماعية، ولن تقوم له قائمة إلا من خلال تضافر جهود المؤمنين وحوارهم من أجل مستقبل أكثر إنسانية. رمضان كريم وكل عام وأنتم في سلام مقيم. *كاتب مصري