أرى الموقف في قطاع غزة من منظور أن «التطرف يفسد الجميع». وتبدأ روايتي بفكرة أن قيام إسرائيل كان «خطوة تاريخية انطوت على خطأ تاريخي هو ترحيل 700 ألف فلسطيني». وعلى مدار جيلين، فيما يمكننا وصفه بـ«عصر إسحق رابين»، حاول قادة إسرائيل وفلسطين، في بعض الأحيان بصورة دامية وفي أحيان أخرى بطريقة غير مجدية معالجة ذلك الخطأ، وإقامة وطنين على حدود ما قبل عام 1967. لكن في تسعينيات القرن الماضي، حدث تحول ذهني، فنما التطرف في الجانب الإسرائيلي، وتجسد في المتطرف الذي قتل رابين. وفي البداية: تحول السؤال من «ماذا نفعل؟» إلى «من نلوم؟». ولم تعد النقاشات تركز على كيفية اتخاذ خطوات نحو مستقبل يمكن العيش فيه، وإنما على من المسؤول عن أخطاء الماضي. وأضحى النشاط الأساسي هو الإدانة الأخلاقية، مع التبرير كهدف نهائي. ثانياً: أضحى حلم الانتصار الكامل هو الحلم الوحيد المقبول. وفي السياسة العادية، لم تعد الجدالات الدائمة تستمر في الحقيقة، فالأحزاب المتنافسة تحاول بدلاً من ذلك التوصل إلى تسويات مرحلية. لكن المتطرفين يحاولون الفوز في الانتصارات الجزئية، ويصرون على أنهم يوماً ما سيحصلون على كل ما يريدون، وأنه في ذلك اليوم سيختفي الطرف الآخر من الوجود بقوة سحرية. ثالثا: يستبدل المتطرفون بمرور الوقت التفكير الاستراتيجي بالتفكير النظري. فالتفكير الاستراتيجي يتركز على علاقة الوسائل بالغايات، فكيف يمكننا استغلال ما لدينا لنصل إلى حيث نريد؟ وأما التفكير النظري فيقوم على المثالية والانتقاد. ومن هذا المنطلق، فإن الهجمات باستخدام السكاكين، واندفاع المتظاهرين نحو السياج الحدودي، قد لا تكون له قيمة عسكرية أو استراتيجية كبيرة، وإنما مغامرات في ساحة انتحارية. وبصورة عامة، تحولت إسرائيل من سياسات رابين إلى سياسات بنيامين نتنياهو وأفجيدور ليبرمان، وهو تحول من التعددية إلى المركزية العرقية والفصل العنصري، وتحول من الواقعية الصعبة إلى التفكير السحري بأن الفلسطينيين يوماً ما سيذهبون أدراج الرياح! ومن الواضح أنه من مصلحة إسرائيل أن تبعد الفلسطينيين عن التطرف، وأن تضعف المتطرفين داخل الحكومة الإسرائيلية، لكن على رغم من ذلك، تبدو السياسات الإسرائيلية القاسية مخصصة لضمان ردود فعل متطرفة. ولنأخذ أحداث الأسبوع الجاري على سبيل المثال، فعلى مدار أشهر، كانت القوات الإسرائيلية تحذر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه من أن غزة في حالة أزمة، وتتجه إلى الانفجار. ولطالما أشارت "حماس" إلى أنها ستفعل ما فعلته عند السور الحدودي، بالتحريض على احتياج ضخم للحدود. وقد كان هناك متسع من الوقت للبحث عن حلول للتعامل مع الحشود من دون إراقة دماء. لكن مثلما أشار «أموس هاريل» في صحيفة «هآرتس»: «إن السؤال الجوهري هو ماذا فعلت إسرائيل لتمنع حمام الدماء قبل حدوثه؟، والإجابة هي أنها لم تفعل شيئاً يُذكر». وهذه هي مشكلة التطرف أنه غياب عن الواقع، ويجعل المرء أكثر غباء. فبدلاً من العمل بمهارة على تحقيق المصلحة في سياق متغير، ينتهي الأمر بالصياح ورفع الصوت بالمبررات الأخلاقية في وجه العاصفة. وبدلاً من البحث عن تسوية من أجل إحلال السلام، يتحول الأمر إلى مزيد من الدنس! ورؤيتي للأحداث لا تعفي الفلسطينيين من المسؤولية عن خياراتهم، لكنها لا تدع الإسرائيليين يتنصلون من إخفاقهم وسفكهم للدماء. والتطرف معدٍ بصورة طبيعية. ولمواجهته، سواء في الداخل أو الخارج، لابد من الرد على الأصوات الغاضبة بعرض جدير بالاحترام. وهذا وإن لم يبد طبيعياً، لكنه الطريقة الوحيدة. *كاتب أميركي يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»