انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني ليست لديه تداعيات في منطقة الخليج العربي فحسب، ولكنه يمثل كذلك تعبيراً عن خلاف مع الحلفاء الأوروبيين، ويمكن أن يحمل معه قطيعة للتحالف عبر المحيط الأطلسي. وفي الواقع، عندما يتخذ ترامب قراراً يتعلق بالسياسة الخارجية، فإنه يُظهر دائماً بعض الانسجام والترابط المنطقي: فهو قبل كل شيء، يأخذ في عين الاعتبار ما يفكر فيه ناخبوه ويرغبون فيه. وينتهح استراتيجية التوتر والتصعيد، معتبِراً أن ذلك سيدفع العواصم الأخرى إلى الاصطفاف خلف العواصم، وفي الأخير تكثيف مشترياتها من الأسلحة الأميركية. والواقع أن وزن الأميركيين ودورهم التاريخي وقوتهم كانت تدفعهم إلى عدم التردد أبداً في انتهاج سياسة أحادية الجانب، في حين أن العمل ضمن إطار من التعاون والتنسيق الدوليين يمثل مجرد خيار. غير أنه لم يسبق لرئيس أميركي أن ذهب في ذلك إلى هذا الحد. فواشنطن كانت تنظر دائماً إلى التحالف الأطلسي باعتباره إطاراً ينبغي أن يكون تحت زعامتها، غير أنه لم يسبق لأي رئيس أميركي أن عامل حلفاءه الأوروبيين بمثل هذا الحد من قلة التقدير. فبالنسبة لترامب، ليس هناك شركاء أطلسيون، وإنما هناك فقط تابعون يجب أن يصطفوا خلف واشنطن بخضوع كامل. والحقيقة أن الأوروبيين يدركون أن سلوك إيران في المنطقة يتسبب في زعزعة الاستقرار، لكنهم لا يريدون أن تكون استراتيجيتهم تجاه طهران خاضعة لإملاءات من ترامب بدون تشاور معهم. وإلى ذلك، فإن أي رئيس أميركي لديه الحق في العدول عما فعله سلفه، لكن الأوروبيين يرون أنه ليس لديه الحق في أن يرغمهم على اتباعه. ثم إن الطريقة التي يدير بها ترامب الملف الإيراني هي أكثر خطراً من تلك التي كان يتبعها بوش الابن في الملف العراقي. فعلى الأقل، فهذا الأخير سعى على الأقل إلى إقناع شركائه وحاول إيجاد حل داخل منظمة الأمم المتحدة، بل أعاد بلاده إلى منظمة اليونيسكو حتى يُظهر أنه لم ينس كلياً التعاون والتنسيق الدوليين. أما ترامب، فلا يُلقي بالا لأي من ذلك. في 2003، تبعتْ بوش الابن بلدانٌ أوروبية، لاسيما المملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا وكل بلدان أوروبا الشرقية. واليوم، يمكن القول إن الرئيس الأميركي أكثر عزلة بالنظر إلى أن ثمة جبهة موحدة مكونة من لندن وباريس وبرلين ترى أنه ضل الطريق على نحو خطير. رغبة ترامب في منع كل الموقّعين الآخرين على الاتفاق النووي الإيراني، وأي بلد آخر، من الاستمرار في نسج علاقات تجارية مع إيران، تُعتبر مساساً كبيراً بسيادتها. لذا تجد باريس ولندن وبرلين نفسها أمام تحد حقيقي: إما أن تقاوم ولا تعير تهديدات واشنطن أي اهتمام، وحينها ستكون ثمة أخطر أزمة يعرفها التحالف الأطلسي في تاريخه، أو تطبّق تعليمات البيت الأبيض فتعطي الانطباع بأنها أقل استقلالية، بل تضع سيادتها الاقتصادية تحت الوصاية الأميركية. إنها فرصة فريدة من أجل إظهار أن أوروبا تستطيع التحكم في مصيرها بنفسها. فالولايات المتحدة، التي كانت حامية القارة العجوز خلال الحرب الباردة، تبدو اليوم أشبه بمصدرَ خطرٍ من الناحية الأمنية منها بمصدر استقرار. ذلك أنها بالأمس كانت تعطي شعوراً بالاطمئنان أمام الاتحاد السوفييتي، أما اليوم فباتت تبعث على الخوف. وكان التحالف الأطلسي يمثل حماية، لكن ترامب يريد اليوم أن يجعل منه وسيلة للتبعية. ونحن كثيراً ما نتحدث عن القيم المشتركة للبلدان الغربية، لكن العمل والتنسيق الدوليين، اللذين يُعدان قيمةً أساسيةً في عالم معولم ويمثّلان الطابع المميّز للبناء الأوروبي، باتا يفصلان ضفتي الأطلسي. ويُظهر ترامب رغبة في الهيمنة على من يخالفونه الرأي ومعقابتهم متجاوزا بذلك كل الخطوات الإمبريالية التي قام بها الرؤساء الأميركيون السابقون. وخلاصة القول هي أن البلدان الأوروبية والولايات المتحدة تدرك خطورة السياسة الإيرانية في المنطقة، لكن ما يميزهما هو طريقة الرد عليها والحلول التي ينبغي أن تقدم لها. *مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس