تلقيت في الآونة الأخيرة دعوة من مجمع اللغة العربية بدمشق، للمشاركة في مؤتمره، فأجبت شاكراً لهذه الدعوة من مجمع أنا أصلاً عضو فيه. واللافت أن الدعوة تأتي من مجْمع يجمع بين ظهرانيه أعضاء منحدرين من حقول وتيارات وتخصصات معرفية مختلفة، لكن فيها جميعاً تمارس اللغة العربية دوراً محسوساً، لاسيما حين يتصل الأمر بالترجمة من لغات متعددة، وما يتطلبه ذلك من إيضاح وضبط يؤكد الأهمية المركزية للغة. وهنا تصبح مسألة اللغة أمراً يدخل في حقل التنظير اللغوي المرتبط بأمور عديدة تتصل بتاريخ لغات النصوص المترجمة، وكذلك بتاريخ اللغة العربية نفسها، لاكتشاف ما إذا كان ثمة توازٍ تاريخي للغتين الاثنتين كلتيهما. وفي هذه الحالة قد يظهر تداخل لغوي دلالي بين لغة النص المُترجَم واللغة المُترجم إليها (أي العربية)! وهذا ما يضعنا أمام مسائل عدة لا يمكن تجاوزها إلا التوقف عند ثنائية الدال والمدلول في اللغتين. لهذا لا بد من متابعة تطور الدراسات اللغوية في حقول معرفية عدة: تاريخية ولسانية وأيديولوجية وغيرها. والأمر يصبح أكثر أهمية، خصوصاً حين تكون الترجمة عن «لغة عامية محكية» أو عن أخرى تأخذ طابع التقدم أو التطور أو التغير المقترح، إذ هنا قد تتغير الدلالات والمعاني مع حدوث تحولات ما. وقبل تخصيص الحديث لمسائل أخرى مستنبطة من سياق اللغة العربية نفسها، يحسن بنا أن نأتي على تحدي العصر الراهن، والذي يمثل أهمية استراتيجية لأجيال قادمة متعددة. أعني بذلك مواقع اللغات في منظومة «العولمة» التي تنمو جهاراً وبقوة في سياق العالم العربي. وفي سبيل مقاربة أكثر فعالية لمسألة اللغة العربية، يتعين أن نضع أيدينا أيضاً على الفكرة المركزية التي تواجهنا الآن تحت مصطلح «العولمة»، فهذا الأخير يمكن وضع اليد عليه إذا ما عدنا إلى المصائر التاريخية التي انتهى إليها «النظام العالمي الجديد»، المختزل بفكرة «تسليع العالم»، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن فكرة «تسليع العالم»، تنتمي أساساً إلى النظام الرأسمالي، حتى في مرحلة نشوئه الأولى الباكرة، فـ «السلعة» التي ينتمي إليها وُجدت قبل نشأته، بل بالتحديد مع ظهور «السوق»، عبر مسار تاريخي طويل جسّد تكريساً للنظام الرأسمالي، مع أن السوق والسلعة التي يجري تبادلها فيه، يعود إلى قرون عديدة من تاريخ البشرية. ولعل التطور الذي لحق بذلك النظام كان ولا يزال يطبع تاريخ البشرية ككل. والفكرة التي تستأثر باهتمامنا هنا تتمثل في أن المرحلة العولمية الراهنة، قادت إلى حالة جديدة هائلة تغمر البشر بعنفوانها وآلياتها الكامنة وراء إنتاج «السلعة»، ما أسس لسحب العملية هذه على الوجود الإنساني ذي الطابع الجديد، وذلك في سياق عملية مركبة ومعقدة تقوم على أربعة أطراف هي: السلعة، ومنتجها الإنساني الآلي، والعالم الذي يعممها، والأهداف المجتمعية الناتجة عنها. وقد صدق من قال بمنتهى البساطة والعلمية في آن واحد: كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان! فهل تم أيضاً تسليع اللغة؟!