أن يُصّحح عالم سعودي تاريخ العلوم في جامعة «أكسفورد» حدث يستحق الاهتمام، وأن يكون العالم غير مختص بالتاريخ، بل بهندسة الكومبيوتر، فالموضوع يستدعي التأمل. وعندما نتأمل تاريخ العلوم، وهو التاريخ كله، نجد تاريخ الحاضر والمستقبل، يستكشفه العالم السعودي «محمد إبراهيم السويل» دكتور من جامعة «ساوث كاليفورنيا» في التعقيد الحسابي، وهو أحد مرتكزات علم «التعمية الحديث». وعلم «التعمية» يُستخدمُ للحفاظ على شبكات وأجهزة الاتصالات ضد مخاطر تهدد أمن الدول السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتتصدّرُ عواقب فشل «التعمية» الأخبار العالمية، عن تسريب معلومات شخصية لملايين المشاركين في خدمة الاتصالات الاجتماعية «فيسبوك»، واختراق «القرصنة الإلكترونية» مؤسسات كبرى، بينها «وكالة التحقيق الفيديرالية» الأميركية، و«شبكة الصحة العامة البريطانية»، وأحد أكبر البنوك العالمية «مورغان تشيز». و«التعمية» في أبسط تعريف هي تغيير الصيغة الأصلية للمعلومات حتى لا يمكن قراءتها دون مفتاح أو شيفرة فتحها. وعرض «السويل» في محاضرة «أكسفورد» نبذة عن تاريخ ومؤلفات مؤسسيها العرب: يعقوب الكندي في «رسالة في استخراج المُعمّى»، وأبو قاسم العراقي في «حل الرموز وبراءة الأسقام في كشف أصول اللغات والأقلام»، وابن وحشية في «شوق المستهام في معرفة رموز الكلام»، وابن دُرَيهم في «مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز»، وغيرهم من كبار العلماء العرب ممن كتبوا في التعمية، خلال الفترة بين القرنين الـ9 والـ14 ميلاديين، والذين سبقوا بالقرون أعمال «ألبرتي»، و«فيرما»، و«باسكال» و«شامبليون». والأخير سبقه «ابن وحشية» بعشرة قرون في فك ألغاز اللغة الهيروغليفية. واستعاد «السويل» تراث قواعد «التعمية» العربية لاختراق سرية المعلومات، وبينها استخدام عدد الحروف لمعرفة لغة النص «المُعّمى»، والتحليل الإحصائي لتواتر الحروف، ومقارنتها بتواترها في اللغة نفسها، والحروف المحتملة في استهلال النص أو ألقاب التكريم. ومن أشهر أقفال التعمية العربية بيت شعر يضم جميع حروف المعجم: «قد ضَجّ زخرٌ وشكا بثّه، مُذْ سَخِطَتْ غُصنٌ على لافِظِ». فإذا أرادوا الألف قالوا: الحرف الرابع من الرابع، والحاء الحرف الثاني من الثالث، وهكذا. وَرَدَ ذلك في كتاب «علم التعمية واستخراج المُعمّى عند العرب» الذي أعدّه محمد المراياتي، ويحيى مير علم، ومحمد حسان الطيّان، وساهم بمراجعته «السويل» وصدرت أجزاؤه الستة بالإنجليزية خلال رئاسته «مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية». ويذكر الكتاب موهبة شهرزاد في استخدام المعميات، والتوريات، والألغاز في قصصها. وعندما زرتُ «المدينة» آخر مرة وجدت عدد نساء العلم فيها قفز من «صفر» في زيارتي لها عام 2004 إلى 158 عام 2014، وثلثهن باحثات في أمن المعلومات، وتنقيب المعطيات، وصناعة أقمار صناعية صغيرة تحقق مبيعات في الأسواق العالمية، وبينهن «حصة العيسى» التي أشرف «السويل» على أطروحتها للدكتوراه في «علم التعمية» في جامعة «الملك سعود»، و«أماني الشاوي» دكتورة هندسة المعلومات والبرمجيات من «جامعة ميامي» بفلوريدا، و«مريم نوح» دكتورة في أمن الاتصالات، وتحليل الشبكات الاجتماعية، من جامعة «مونتريال» بكندا. وتولى «السويل» وزارة «الاتصالات وتقنية المعلومات» عام 2015 وكان واحداً من 19 وزيراً يحملون شهادات هندسة ودكتوراه في وزارة ضَمَت 30 عضواً. وعاد أخيراً إلى أبحاثه العلمية، ويصدِر قريباً كتابين، أحدهما «علم التعمية الحديث»، وفيه يعرض طرقاً آمنة لتغيير المعلومات إلى صيغة «معمية» بدون معرفة مفتاحها السري، ويستكمل به كتابه «المدخل إلى علم التشفير» الذي صدر نهاية القرن الماضي، ولم أجد مفتاح كلمة السر المدوّنة على غلافه، وأعتقدُ أني وجدته في كتابه الجديد، الذي يُعرّفُ الأطفال والبالغين على طرق حل المسائل الرياضية، تساعدهم في حل مشاكل في مجالات حياتية واسعة. وقد استوحى «السويل» عنوانه، «كيف أحلّ هذه المسألة»، من «جورج بوليا»، أحد أشهر علماء الرياضيات في القرن العشرين، ونصيحته النافعة: «إذا لم تستطع حل مشكلة، فهناك مشكلة أسهل حلاً جِدْها»!