منذ سنوات والولايات المتحدة الأميركية تسوق لاحتمالات استخدام الخيار العسكري ضد إيران. وكل إدارة أميركية جديدة تلوح مثل التي قبلها بالخيار ذاته الذي تحول إلى مسرحية ساذجة، لنكتشف أن إيران أصبحت تمتلك، بفعل التراخي الأميركي، المزيد من أوراق الضغط والتهديد والمزيد من أدوات التوسع الإقليمي. بل وصلت إلى مرحلة الشروع في بناء برنامج نووي دخلت بموجبه في حوار مع الغرب، أفضى إلى الاتفاق الهش الذي يلوح ترامب حالياً بالانسحاب منه، رغم أن خطوة الانسحاب إن حدثت لن يترتب عليها سوى إعادة التفاوض لا أكثر. وحتى ما قبل التوقيع على الاتفاق النووي كانت التهديدات الأميركية بكبح أطماع طهران لا تتجاوز الثرثرة والحرب الكلامية التي يتم ترويجها للاستهلاك الإعلامي، ولكثرة تكرارها أصبحت غير ملفته ولا يبني عليها المحللون أي احتمالات قد تلجم إيران أو تحد من عبثها. الحاصل أن شواهد عديدة تثبت أن لدى أميركا مصلحة حيوية من وجود النظام الإيراني الحالي. وأقرب مثال إلى الذهن بهذا الشأن الدور الإيراني المساند عملياً للأميركيين في العراق. ولا يخفى على المتابع أن حلفاء إيران وعملاءها بدؤوا بالتحرك في الساحة العراقية بالتزامن مع الاحتلال الأميركي للعراق، وصولا إلى اللحظة الراهنة التي أصبحت فيها العراق حظيرة خلفية لإيران ومجموعاتها الطائفية الأكثر تشدداً. لقد ساهمت إيران في الحصار الأميركي ضد العراق قبل بداية الغزو الأميركي. وبعد دخول القوات الأميركية إلى العراق لم يحدث أي اشتباك مع الإيرانيين ولا مع مليشياتهم على امتداد الساحة العراقية. وفي مرحلة لاحقة كان الطيران الأميركي يساند مليشيات «الحشد الشعبي» الموالية لإيران تحت غطاء محاربة الإرهاب، ويجري الآن عبر الانتخابات إضفاء مشروعية سياسية على أعتى المنظمات الطائفية المتطرفة في العراق الذي دمرته أميركا وسلمته لإيران. والأمر ذاته يحدث في سوريا التي تتواجد فيها قوات إيرانية إلى جانب قوات تابعة لـ«حزب الله» اللبناني، وكل تلك الأذرع الإيرانية تتحرك بأمان وفي ظل تواجد جوي وصاروخي أميركي. ولكي نستوعب خلفية العلاقة بين نظام الملالي وواشنطن، لابد من العودة قليلاً إلى الوراء، وبالتحديد إلى المنظور الذي دفع الأميركيين للاستفادة من نظام الولي الفقيه، رغم العداوة الشكلية بينهما. يكمن السر في التكوين الطائفي والمذهبي للنظام الإيراني، بما يحوي من مخزون التعصب والجاهزية للصدام وتصدير الفوضى إلى المجتمع الإسلامي. هذه الشحنة العقائدية التي تبرر للعنف والطائفية تلقى ترحيباً لدى دوائر أميركية لا تزال تعتمد على استخلاصات موروث الاستشراق الغربي، الذي تزامن مع الحملات الاستعمارية للشرق، وحاول فهم عوامل الانقسام والوحدة وكل ما يتصل بالمجتمعات المستعمَرة، وعوامل القوة والضعف لديها، والمداخل المناسبة للسيطرة عليها من خلالها. لذلك لم يجد أنصار هذا الاتجاه من هو أفضل من النظام الإيراني لنشر الفوضى والحروب الطائفية في المنطقة. ذلك الاستنتاج لا يندرج ضمن نظرية المؤامرة، لأنه معزز بتصريحات لشخصيات من النخبة الأميركية المساهمة في رسم الاستراتيجيات المستقبلية. لنأخذ مثلا وزير الخارجية الأميركي المخضرم هينري كيسنجر وموقفه من نظام طهران، إذ يقول في أحد التسجيلات المصورة: «طالما أن إيران يحكمها آية الله، وقواعدها مبنية على أسس طائفية، فعلينا توخي الحذر، لكن إيران بالأساس حليف طبيعي للولايات المتحدة». بمعنى أن النظام الإيراني الطائفي الذي يوتِّر المنطقة بشكل دائم، يخدم الولايات المتحدة من عدة جوانب، أبرزها ضمان حماية أمن الحليف الإسرائيلي، والتهرب من إيجاد حل نهائي للصراع، والإبقاء على منطقة الشرق الأوسط في حالة اللاسلم واللاحرب. وبنظرة عامة إلى النقاط الساخنة التي تساهم إيران في إشعالها عسكرياً وإعلامياً، يمكن ملاحظة اكتفاء الجانب الأميركي بالتصريحات الإعلامية التي لا تتحول إلى مواقف على الأرض تقف ضد التغول الإيراني. ورغم تهليل البعض لصعود ترامب وتوقعهم بأنه سيكون أكثر صرامة ضد إيران، فإن السياسة الأميركية تجاه السلوك الإيراني لم تتراجع عن أسلوب التلاعب بهذا الملف ولم تتعامل معه بجدية حتى الآن.