تجرأت إحدى الجامعات المصرية العريقة وقامت بإلغاء خانة الديانة من أوراقها. فالجامعة مؤسسة علمية، ومن فيها -أساتذةً وطلاباً- طلاب علم. والعلم طلب الجميع، لا فرق بين مسلم وقبطي. فما الفائدة من وضع خانة للديانة في معهد علمي؟ هل المقصود الإحصاء الكمي لنسبة المسلمين والأقباط على مستوى الأساتذة والطلاب والإدارة ورؤساء الجامعات، لتعميق الخلاف اعتماداً على هذا الإحصاء، مما يقسم الهيئة -وباقي الهيئات الأخرى- إلى طائفتين، وكأننا لا نعيش في وطن واحد؟ العجيب أن يحدث ذلك فيما الجميع يشكو من الطائفية التي دمرت العراق سوريا واليمن، وأصبحت أكبر خطر يهدد المنطقة. إن الهوية في الجامعة هوية العلم وليست هوية الدين. حتى خانة الجنس، ذكر أم أنثى، ليست مفيدة في طلب العلم. تقوم الجامعة على الاختلاط بين الجنسين في المدرجات وفي الحرم الجامعي والطرقات بين الكليات. وخانة الجنس مثل خانة الدين، تؤدي إلى التفرقة بين الجنسين. فالجامعي طالب علم، أستاذاً أم طالباً، بصرف النظر عن جنسه، ذكراً أم أنثى. ويأتي الإحصائيون ليعدوا كم ذكراً وكم أنثى في الجامعة ليثبتوا اضطهاد المرأة، وينسوا أن هوية الجامعي هو طلب العلم وليس الذكورة أو الأنوثة! وقد يأتي يوم تتشجع فيه الجامعة أيضاً على حذف خانة الجنسية، مصري أم أجنبي، فما الفرق بين الاثنين في طلب العلم؟ وهل العربي أجنبي مثل الأوروبي والأميركي؟ وهل الماليزي والإندونيسي أجنبيان مثل الصيني والياباني؟ إذا كان الهدف من هذا التفريق هو المصروفات، فمجانية التعليم تلغي هذا الهدف. وأيهما أفضل: أن تكسب الجامعة مادياً أم تكسب عقول وقلوب الطلاب العرب والأفارقة والمسلمين؟ كنت ذات مرة في بلجراد بيوغوسلافيا في الستينيات، واعتبرني صاحب الفندق أجنبياً، فأعطيته درساً في ناصر وتيتو ونهرو وعدم الانحياز.. وسألته: هل هؤلاء أجانب؟ وكان طلاب العلم قديماً يمشون مئات الأميال ويعبرون الحدود الحالية ليلتقوا بعالم يدرس في المسجد الكبير. ولم يسألهم أحد من أي بلد أنتم، أو يأخذ منهم مصاريف حسب الجنسية. وقد كسبت مصر الكثير عندما كان يأتيها الطلاب من أفريقيا وآسيا. وقد أقرت ثورة يوليو مجانية التعليم الجامعي بعد أن أقر طه حسين وزير التعليم في حكومة الوفد عام 1951 مجانية التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية. والآن تزداد المصاريف عاماً بعد آخر. أما التعليم المفتوح فهو مشروع تجاري محض. بإلغاء خانة الديانة نحارب الطائفية من الجذور، خاصة لو بدأ ذلك بالمدارس الابتدائية والثانوية. لا ينبغي في البلدان العربية أن نفرق بين المواطنين بأيدينا، ثم نشكو من الطائفية بعد ذلك. إن الأمر يحتاج إلى مزيد من الشجاعة الأدبية في المؤسسات التعليمية لإلغاء كل عوامل التفرقة بين المواطنين، ومزيد من الشجاعة الأدبية لرفع الحواجز الحديدية بين طرقات الحرم الجامعي. فالعلم رفع للحواجز والموانع الفكرية. والأمن في الداخل وليس في الخارج. قد يكون إلغاء خانة الديانة في أوراق جامعة القاهرة مقدمة لإلغائها في البطاقة الشخصية وجواز السفر وشهادة الميلاد والتجنيد وكل الأوراق الرسمية. فالجامعة مقدمة للعمل الوطني. أسسها أحمد لطفي السيد، ودرّس فيها طه حسين ورواد الوطنية المصرية. الجامعة صورة مصغرة للوطن الكبير، في الشجاعة الأدبية وحرية الرأي وأخذ زمام المبادرات الوطنية دفاعاً عن الوطن والمواطنة. الأستاذ والطالب في الجامعة مواطنان يجمعان بين هموم العلم والوطن، يدافعان عن الهوية الوطنية ضد كل فروق التمييز الديني والطائفي والجنسي، منعاً للتفتيت الذي طُبق في العراق وسوريا واليمن وليبيا. والعجيب أن إسرائيل تجمع الطوائف والجنسيات اليهودية من كل مكان، تجمع ولا تفرق بين أرثوذكسي وإصلاحي.. فاليهودية هوية قومية. ما كان للعرب تركناه وأخذته إسرائيل. نضعف ونفتت أنفسنا بأيدينا، وتقوى إسرائيل وتوحد طوائفها بأيديها.. فمن الذي يكسب في النهاية؟ لا فرق بين العلم والوطن، ولا بين هموم العالم وهموم المواطن. ونحن نتعلم من أجل تطوير الأوطان، فلا نقطع أجسادنا بأيدينا، ولا نسيل دماءنا بسكاكيننا التي أولى أن تُوجَّه إلى العدو. *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة