حل شهر مايو الذي شهد منذ سبعين عاماً النكبة التي نزلت بالشعب الفلسطيني وتمثلت في قيام القوات المشتركة بين المنظمات العسكرية الصهيونية، وفي مقدمتها «الهاجاناة» و«الإرجون تسفائي لئومي»، بتطبيق الخطة التي اعتمدها «بن جوريون» لإخلاء القرى والأحياء السكنية العربية من سكانها. نتج عن هذه الخطة الشريرة طرد سبعمائة ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم وتحولهم إلى لاجئين مشردين، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو في الدول العربية المجاورة. أهم مشهد يتميز به شهر النكبة اليوم، وبعد مرور سبعين عاماً على النكبة، هو مشهد مسيرة العودة السلمية الكبرى التي ينظمها اللاجئون في قطاع غزة، والتي بدأت منذ ستة أسابيع كل يوم جمعة وستصل ذروتها في منتصف الشهر. ينطوي هذا المشهد على دلالات تستحق التأمل؛ الأولى أن اللاجئين وأولادهم وأحفادهم قد شعروا بالإنهاك العام من الإقامة المزرية في مخيمات اللاجئين البائسة معتمدين في معاشهم على معونات منظمة غوث اللاجئين، وأنهم أصيبوا باليأس من الحصول على حقهم في العودة إلى بيوتهم وأراضيهم أو الحصول على تعويض من خلال العملية السياسية التي بدأت منذ ربع قرن بتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة رابين. من هنا لجأوا إلى طريقة المسيرات السلمية علهم ينجحون في اجتياز السياج الحدودي الفاصل بينهم وبين أراضيهم وفيها بيوتهم التي يرونها عن بعد أو علهم يلقون الشهادة برصاص القوات الإسرائيلية فيجذبون أنظار العالم إلى قضية شعبهم. الدلالة الثانية أن الحكومة الإسرائيلية الحالية عازمة على معاقبة اللاجئين للمرة الثانية بعد أن عاقبتهم منظمة الهاجاناة وأخواتها المرة الأولى بالتشريد عام 1948، وذلك بأن أصدرت حكومة نتنياهو أوامر إلى جيشها بإطلاق الرصاص الحي على الفلسطينيين المسالمين المشاركين في مسيرات العودة، حيث يقوم الجنود في حالات عديدة بإطلاق النار على اللاجئين في الجزء الأعلى من الجسم بهدف القتل، وهو ما أسفر حتى الآن عن استشهاد حوالي خمسين لاجئاً. الدلالة الثالثة أن منظمة بتسيلم الإسرائيلية المدافعة عن حقوق الإنسان قامت بجهود كبيرة لمنع تنفيذ أوامر إطلاق النار من جانب الجنود الإسرائيليين على الفلسطينيين المسالمين وقامت بنشر إعلانات في الصحف تناشد الجنود عدم إطاعة أوامر قادتهم، كما قامت المنظمة بتسجيل حالات لعمليات إطلاق الرصاص على شبان فلسطينيين بعيدين بمئات الأمتار عن السياج الحدودي وظهرهم للجنود الإسرائيليين بما يدل على أنهم لا يمثلون أي خطر على أولئك الجنود أو على سياج الفصل العنصري نفسه. لم تكتف المنظمة الإسرائيلية الحقوقية بذلك، بل توجهت إلى مجلس الأمن الدولي وهي تحمل ملفاً يضم جميع الأدلة المصورة لتثبت المخالفات الجسيمة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي للقوانين والمعايير الدولية. الدلالة الرابعة أن اللجنة الوطنية الفلسطينية العليا المشكلة من شخصيات عامة وممثلين لجميع المنظمات، مصممة على أن تكون مظاهرات العودة ذات طابع سلمي رغم قيام الجنود الإسرائيليين بإطلاق الرصاص على المتظاهرين المسالمين، وأصرت على عدم استخدام أي سلاح من الجانب الفلسطيني، وهو الأمر الذي طبع هذه المسيرات بطابع النضال السلمي وأعاد إلى الأذهان منهج النضال السلمي الناجح الذي استنه الزعيم الهندي المهاتما غاندي في مواجهة الاحتلال البريطاني. لقد لفت هذا النهج النضالي السلمي نظر عدد من الإسرائيليين من معسكر السلام، فهل ينجح في إحياء معسكر السلام الإسرائيلي الذي أصابه مد اليمين بالذبول؟