بين القمة العربية في الظهران وتمرين «درع الجزيرة المشترك» أطلقت المنطقة العربية رسالة بالغة الوضوح إلى إيران، أولها سياسي طالما رفضت طهران سماعه وآخرها عسكري يميل إلى التقليل منه، ومفادها أن حسن الجوار والعلاقة السويّة لا يمكن أن يبدأا بمساومة مكشوفة بين الناهب والمنهوب بل بخطوات جوهرية ذات معنى تبدي الاحترام للآخر وتوقف مسلسل التخريب المبرمج. وبطبيعة الحال شاءت الصدفة أن يشكّل استعراض اليوم الوطني للجيش الإيراني ردّاً على القمة والتمرين، إلا أنه أخفق مجدّداً في صياغة رسالته إلى الجيران الأقربين والأبعدين. بات يلزم إيران أكثر من مجرّد التعبير عن نيات وأكثر من كلمات طيبة يتفوّه بها حسن روحاني أو محمد جواد ظريف، ولم يعد يكفي القول إن إيران «لا نية لديها لمهاجمة جاراتها»، لأن ارتكاباتها باتت معروفة ومكشوفة، فحتى قادة الدول الذين لم يكونوا يتفاعلون مع التحذيرات أو يستشعرون الأذى صاروا اليوم على يقين بأن التهديد الإيراني أكثر خطراً مما يسمعون عنه أو تفيدهم به تقارير سفرائهم وأجهزتهم. وقد أشارت قمة الظهران بوضوح إلى أن الأمن القومي العربي يواجه تحدّيات عدّة بينها القديم الإسرائيلي والكامن التركي والمتوسّع الإيراني. وهناك دائماً تحدّي القوى الدولية التي تتلاعب بهذه التحدّيات جميعاً وتوظّفها لإبقاء استقرار المنطقة العربية هشّاً وغير متماسك. ولدى استعراض القمة الملفات السورية والعراقية واليمنية واللبنانية، فضلاً عن الملف الفلسطيني، كان بديهياً أن التدخّلات الإيرانية تجاوزت كل الخطوط الحمر في تفكيك الدول والحؤول دون نهوضها كما في تمزيق النسائج الاجتماعية، وخلخلة أسس التعايش بين مواطني البلد الواحد، بل إنها بلغت في الآونة الأخيرة حدّ تجنيد العصابات «الحوثية» في اليمن لإطلاق الصواريخ على المدن السعودية. وبما أن هذه العصابات ليست «دولة» ولن تكون فقد أصبح القضاء على خطرها يستلزم حملة دولية مماثلة لتلك التي شنّها «التحالف الدولي» ضد تنظيم «داعش»، أما إبداء العجز الدولي حيالها، فلا يفعل غير اذكاء شرورها. لكن، بما أن ثمة دولة تفرّخ مثل هذه العصابات وتخلع عليها أسماء مذهبية، فقد أصبح أقلّ واجب أن يشار إلى هذه الدولة بالإدانة والتشهير كونها خارج القانون. كل ذلك لا يعترف به المرشد علي خامنئي ولا الرئيس روحاني ولا أي مسؤول إيراني، وبعد ذلك يستهجنون كيف لا تُستجاب دعواتهم إلى الحوار. ومع أنهم يفهمون جيّداً الرسائل الموجّهة اليهم لكنهم يتجاهلونها لأنها لا تلبي أهدافهم أو بالأحرى لا ترضي غطرستهم، إذ دأبت القمم الخليجية وتمثّلت بها قمة الظهران أخيراً على «رفض التدخّل الايراني في الشؤون الداخلية للدول العربية»، و«إدانة المحاولات العدوانية الإيرانية الرامية إلى زعزعة الأمن وبثّ النعرات الطائفية وتأجيج الصراعات المذهبية، لما تمثّله من انتهاك لمبادئ حسن الجوار»، وعلى «تأكيد الحرص على بناء علاقات طبيعية (مع ايران) تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون الإيجابي مع دول الجوار العربي بما يكفل إرساء دعائم الأمن والسلام والاستقرار ودفع عجلة التنمية»... هذه ليست سوى عيّنة من مفاهيم ومبادئ يفترض أن تطبّق قبل أي «حوار» وليس بعده أو بنتيجته. تتحدّث إيران وكأنها هي التي مدّت جسور الثقة مع الجوار الذي بادر إلى هدمها، أو كأنها هي المعتدى عليها لا المعتدية. إذ يقول روحاني «خلال العقود أو القرون الأخيرة لم تعتدٍ إيران على جاراتها أو على دول المنطقة»، وينسى ما يفعله «الحرس الثوري» اليوم وليس قبل عقود أو قرون في سوريا والعراق واليمن، فالتفاصيل على الأرض أكثر فظاعة من العناوين. بل يقول للجيران «ليست لدينا أي نية لمهاجمتكم»، وأن إيران «ليست بحاجة للاعتداء» على بلد آخر، وقد لا تكون فعلاً «بحاجة للاعتداء» إلا أن أدلجتها لأتباعها وإضفاءها ثوب «الواجب الجهادي» على جرائمهم يفيان بالغرض. اسألوا السوري والعراقي واليمني واللبناني فلن تجدوا أنهم يفترضون أيّ حسن نيّة في أنشطة «الحرس الثوري» المتغلغل في بلدانهم بوجوه متعدّدة. لكن روحاني يقدّم تلك الأنشطة وما يواكبها من أسلحة على أنها فقط لـ «الردع». فإذا لم يفلح دفاع إيران عن نفسها في سوريا والعراق واليمن فإنها تخشى الاضطرار للانكفاء والدفاع عن طهران. وبما أن التطوّرات تتجه إلى تقليص النفوذ الإقليمي لإيران فهناك احتمالان: إمّا أن القوة التي تخزّنها تستند إلى استراتيجية ذكية تحقّق لها حلمها لتكون ندّاً للقوى العظمى، أو إلى استراتيجية غبيّة تذكّر بنماذج سابقة سادت وبغت ثم بادت.