فيما مضى، كانت السلطة في أيدي نخبة صغيرة، احتلت المرتفعات الحاكمة في المجتمع، وسيطرت على المنظمات الكبيرة من الأعلى إلى الأسفل، وأسقطت المنتجات والرسائل من علُ، لتستهلكها البقية بشكل سلبي. بعد ذلك ظهر الإنترنت، وعلى نحو مفاجئ، جرى توزيع المعلومات عبر شبكات ذاتية التنظيم، مفتوحة المصدر، مكونة من مواطنين تتوافر لهم القدرة على التعاون، وصياغة عالمهم والمشاركة فيه. لكن هذا لم يكن هو الذي حدث في الواقع، فأولى أحلام ثورة التكنولوجيا لم تتحقق، حيث يبدو أحياناً وكأن السلطة قد أعيد توزيعها من بعض المنظمات الضخمة، مثل أمازون وفيسبوك وسبوتيفي.. على الآخرين. لكن المؤكد هو أن شيئاً ما قد تغير، فقد شهدنا انفجاراً لكائنات اجتماعية جديدة لا تبدو مثل الكائنات القديمة. وإذا ما كانت السلطة تبدو في «الجيل الأعظم»، وكأن «رجال المنظمة» هم الذين كانوا يديرون المؤسسات الكبيرة، فإن السلطة تبدو الآن كشبكات لا مركزية لا يوجد بها مهيمن. بنى السلطة في حالة سيولة خطيرة الآن، وأفضل كتاب يوضح هذه الحالة هو «السلطة الجديدة» لمؤلفيه «جيرمي هيمانز» و«هنري تيمز» اللذين يريان أن ما تغير- وربما أكثر من التكنولوجيا- هو مواقف الناس تجاه السلطة، فهم يريدون رؤية أشخاص يشبهونهم، يحتلون مواقع المسؤولية. إن العديد من المنظمات المصنفة في كتاب «السلطة الجديدة»، هي منظمات لا مركزية بالأساس، لكنها تتصارع مع تحديات اللامركزية. ويؤكد المؤلفان في كتابهما أن أفضل المنظمات هي تلك التي تحاول مزج بنى السلطة القديمة والجديدة. وغالباً ما يتم تأسيس المنظمات بوساطة «المنظمين المختفين»، وما يحدث هو أن يأتي شخص ما بمفهوم مقنع، مثل مفهوم «تيد» (TED) أو مفهوم «بلاك لايف ماتر»Black(LivesMatter)، أو أي مفهوم آخر يمنح للناس هوية كمجموعة متماسكة، ليبدؤوا التفكير في أنفسهم كأعضاء في «تيد» أو في «بلاك لايف ماتر». وتلك المنظمات الناجحة تخلق ما تسميه مارلين برور «التميز الأمثل»، وهذا التميز- كما يقول «هيمانز» و«تيمز» هو الذي «يجعل الناس يشعرون بأنهم جزءاً من الحركة، وبأنهم يمكن أن يبرزوا فيها». المفاهيم التي تربط هذه الحركات واضحة، وعاطفية، وملموسة، ولها سردية مجتمعية ضمنية. لكن المنظمات الناجحة تتميز أيضاً ببعض الابتكار البنيوي، حيث تميل عادة إلى أن يكون لديها حواجز منخفضة جداً للانضمام إليها، فليس هناك مستحقات ولا تعهدات بالولاء في البداية، وتكون لديها عادة طرق لتحفيز الأعضاء على المشاركة وتقديم مزايا للمشتركين الذين يتكيفون، وينظمون أنفسهم وغيرهم، ويتبادلون مع الآخرين. في مؤسسة «دي كوريسبوندانت» (DeCorrespondent) الهولندية للأنباء، يتشارك الصحفيون أفكار القصص التي يكتبونها مع المشتركين قبل كتابتها، حتى يتمكنوا من حصد المعرفة المجتمعية. ويشير هيمانز وتيمز إلى أن الرئيس دونالد ترامب نفسه يمزج أيضاً بين السلطة القديمة والجديدة. فهو وإنْ كان يتحدث مثل استبدادي أثناء الانتخابات، فإن هيكل حملته الانتخابية الفعلي كان عبارة عن شبكة فضفاضة من الناشطين في التنظيم الذاتي، وكان ترامب فيها يمثل «الرجل القوي الأساسي»، أي الذي يوجه المشاركين نحو غايات مركزية. إن العقود القليلة الماضية مثلت نهاية للثقة الاجتماعية. وروابط الثقة الوحيدة المتبقية هي روابط محلية وخاصة. لكنّ الناس بارعون، وهم يفكرون في كيفية البناء على هذه الروابط من أجل تضفير واستعادة النسيج الاجتماعي. ديفيد بروكس * *كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»