ليست كل مبالغة سياسية مذمومة ومرفوضة، إنما الرفض ينصب على تلك التي تنطوي على نفاق أو تضليل وخداع، إذ يجب استهجانها ولفظها، لكن حين تؤدي تلك المبالغة وظائف إيجابية، فلا ضير منها، بل إن قبولها يصير أمراً مطلوباً ومرغوباً فيه، ومن الضروري أن يتعلم القادة والساسة استخدامها في تحقيق الأهداف التي يصبون إليها، طالما أنها في مصلحة الناس، أي تحقق القيم الإيجابية وتعمل في اتجاهها، وتجلب الفوائد المادية وتسعى إليها. فالمبالغة مطلوبة إن كانت من قبيل الفصاحة والبيان الذي لا يقصد صاحبه لفت الانتباه لذاته أو لمنطوق كلامه أو مكتوبه، أو يرمي إلى غش غيره وخداعه ومخاتلته، لسلب حقوقه أو لجعله يتغافل عنها أو يهملها أو ينساها أو لا يعرفها من الأساس، إنما لتؤدي وظائف نافعة، سواء كانت لفظية أو غير لفظية، أي بالصورة والإشارة والرمز. وبشكل أكثر تفصيلاً، يمكن ذكر الحالات التي تكون فيها المبالغة السياسية مفيدة، وبالتالي مقبولة، على النحو التالي: 1- في أوقات الحروب، التي تسعى فيها دولة قوية إلى كسر إرادة دولة ضعيفة، واحتلال أرضها، وإذلال شعبها. فمن الطبيعي هنا أن يقوم القادة بإطلاق مبالغات حول قدرة بلادهم على الصد والمقاومة وتحقيق النصر، فمثل هذه المبالغة هي من قبيل الحرب النفسية المضادة لتلك التي يطلقها الطرف الأقوى. 2- في تحقيق التماسك الوطني أو القومي لأمة مهددة في وجودها أو في مصيرها، حيث تلعب المبالغة هنا ذلك الدور الذي يقوم به أولئك الذين يتدخلون إيجابياً في سبيل الحفاظ على نوع معين من الكائنات، تدخلاً يتعلق بالثقافة والتاريخ والمشاعر والروح الوطنية. 3- في أوقات الأزمات السياسية الحادة، فلو افترضنا أن فتنة مذهبية أو عرقية وقعت في بلد ما، وخرج سياسي ذو لسان فصيح، وألقى خطبة عصماء، في وجه خطاب الاحتقان والفتنة، استعمل فيها كل ما أمكنه من تعبيرات غارقة في المجاز والمبالغة حول ما يتمتع به الطرفان المتصارعان، ومنه قدرتهما على التسامح في أوقات الشدة، فإنه يكون قد أتى فعلا حميداً ومسؤولا دون شك. 4- في عملية التعبئة والحشد ورص الصف الوطني خلف قيادة سياسية رشيدة وعادلة اختارها الشعب، وقت أن تطلق مشاريع وخططا واستراتيجيات لبناء الدولة وتنميتها، فهي تعد هنا وسيلة سياسية لازمة لتعزيز رأس المال الاجتماعي، وزيادة القيمة المضافة للمورد البشري في تحقيق النجاح. 5- في أوقات التنافس الانتخابي، ليس من قبيل خداع الجمهور، إنما لإلهاب حماسه. وتصبح فائدة المبالغة هنا وخيريتها مرتبطة بوجود برنامج طموح، وعهد ووعد محدد الملامح وموثوق به، ومنح الناس الأمل في مستقبل أفضل، بناءً على ما هو مقدر ومدروس وليس تسويقاً للأوهام التي لا تعدو المبالغة فيها أن تكون مجرد خطب رنانة وشعارات جوفاء. 6- في بناء الروابط الإيجابية بين الدول، حيث يتم التقاط مواقف وأحداث تاريخية، قد تكون متفرقة ومعزولة وباهتة، لكن يتم النفخ في أوصالها، وإعطائها أكبر من حجمها الذي كانت عليه، في سبيل تقبّل التقارب والتعاون الرامي إلى تحقيق المصلحة العامة المشترك. 7- رغبة شعب في تمجيد قادته التاريخيين، حيث ينسج حولهم الأساطير، أو يزيد من الإشادة بأفعالهم، ورسم صور ناصعة لهم. والأسطرة بحد ذاتها، تنطوي على مبالغات شديدة، لكن مكمن المحمود في هذا النوع من المبالغات أنه يأتي بشكل طوعي وعفوي، ويخدم أهداف الجماعة في رد الجميل لقائد أحسن لشعبه وجعله أمثولة في وجه أي حاكم يأتي بعده، كي يدرك أن بوسعه أن يصير عظيماً في مخيلات الناس وأذهانهم إن عدل فيهم، وعمل من أجل حريتهم وكفايتهم، وكانت كل أقواله وأفعاله لرفعة بلاده وخير الناس عموماً.