نشرت صحيفة «تنزانيا أفيرز» مؤخراً بشكل بارز حواراً لرجل أعمال أميركي مع زميله التنزاني، يرفض فيه الأميركي الكتابة في عقد الاتفاق بالسواحيلية إلى جانب الإنجليزية ناصحاً له أن يكتب بلغه يفهمها الأميركيون، لإمكان التعامل! وقد أثار هذا الموقف كثيراً من التنزانيين، ودار في جامعة دار السلام نقاش متعدد اللهجات حول محددات الوطنية والقومية عند استعمال اللغة السواحيلية أو الإنجليزية، وما يتعلق بذلك من محددات الهوية.. إلخ. ومنذ البداية تتحدث المصادر التنزانية عن وجود حوالى 200 مليون «سواحيلي» أو أكثر في منطقة تمتد من المحيط الهندي إلى شرق الكونغو، وفي حوالى عشرة بلدان في مجموعة شرقي أفريقيا، وإلى حدود جنوب السودان وشمال موزمبيق. وإن أهل هذه الساحة أصبحوا يعرفون بالسواحيليين متجاوزين التفريفات العرقية الوفيرة في هذه المنطقة، وليصبح السؤال: هل تخلق لغة ما قومية موحدة للمنطقة، وتتجاوز غيرها من العوامل رغم مبادئ الاعتراف بحقوق المصير... إلخ؟ هذه القضية باتت تهم كثيراً من المناطق في أفريقيا والعالم العربي نفسه... أين تبدأ مشكلة الهوية وأين تنتهي مشكلة العشائرية أو القبلية أو الطائفية؟ وأشعر أن السؤال يخص المنطقة العربية وغيرها. ولا تستطيع السواحيلية أن تدفع بأنه ساندتها إثنية غالبة، ولا دين واحد مقدس عند هذه الملايين جميعاً، ولكن تظل اللغة هنا هي العامل الفاعل. تذكر هنا بالفارسية والكردية والأوردية، التي حافظت على قومية أقوامها، وليس هناك حرج هنا من تعميم السؤال على العربية التي وحدت في هدوء هذه المنطقة حتى انطلق باسمها معنى القومية العربية، إلا في حدود احترام التنوع الثقافي وليس القتال بين ميليشيات. يهمني هنا بالأساس أن أنقل بعض آراء لأساتذة ومفكرين من تنزانيا وخارجها، والتي انطلقت في لطف أحياناً وعنف أحياناً أخرى، عندما قامت السلطات التنزانية بإقرار اللغة السواحيلية لغة التعليم الوطنية الأولى تليها اللغة الانجليزية، فإن هذا التحول من اعتبارها لغة وطنية فقط إلى اللغة الرسمية في البلاد أثار زوبعة حول الهوية والقومية والعولمة، بين الشعب السواحيلي في المنطقة. كانت بداية أقوى الحجج هنا بين من تساءلوا عن الضعف الثقافي العام في تنزانيا نتيجة عدم مشاركتها في التقدم الاقتصادي والتعليمي في العالم، بحيث أنها لن تستفيد شيئاً من كونها ذات لغة وطنية سواحيلية في أجواء العولمة التي تدحر فيها الإنجليزية كل غريب! وهنا ذكر البعض في ردهم أن بلاداً كثيرة مازالت تحترم هويتها ولغتها رغم الهيمنة الإنجليزية- الأميركية. البعض قال إن 250 مليون نسمة تقريباً إذا لم يستطيعوا إثبات وجودهم، وخاصة أن السواحيلية بذاتها لا تعني قومية إحدى الإثنيات التي تتمتع بغالبية، فسيسهل ذلك تعاوناً كفيلاً بالفاعلية، لو تمت العناية بها أكثر من كونها «لنجا فرانكا».. ومما يثبت ذلك صدور عدد كبير من الكتب العلمية والأدبية الآن باللغة السواحيلية وصدرت بها مبكراً صحيفة «هوبارى يامويزى»، - كصحيفة نافذة... البعض، وأنا مازالت ألتقط من مقالات لأساتذة دار السلام خاصة، يرى أن الضغط من أجل التعليم بالسواحيلية، قد يساعد على تعليم «أهل المنزل» أيضاً ممن يستعملون العامية، لكنها في نفس الوقت ستعزل نخبة كبيرة عن منتج العولمة في مجال الثقافة والفكر، بينما لن تعطيهم السواحيلية شيئاً إلا إذا ارتبطت بعملية ترجمة واسعة أيضا لأعمال مشاهير الكتاب والمفكرين الكاتبين بالسواحيلية.... البعض راح يهاجم بحدة ميول الرومانسيين والنشطاء لفرض هذه الخطوات (لغة من لغات الاتحاد الأفريقي 2004 – اللغة الرسمية في البلاد 2015). وبلهجة حادة ذكر د. كراير ساخراً – أن هؤلاء الرومانسيين وأغنياء البلد سيرسلون أبناءهم إلى المدارس الإنجليزية الخاصة في البلاد، أو أن تجد معظمهم في مدارس بريطانيا والولايات المتحدة لالحاقهم بركاب العولمة تاركين متعلمي السواحيلية في الشوارع يشكلون جيشاً من العاطلين... البعض انتبه لأهم النقاط الاستراتيجية في الموضوع مما يهم بعض بلادنا العربية الانتباه إليه، وهو أنه من دون تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل البلاد من زراعة وصناعة وخدمات تستوعب الأيدي العاملة ممن تعلم من شباننا لغتنا الوطنية، فمصير هؤلاء هو البطالة المباشرة وغير المباشرة. وهذه الزاوية المهمة تستطيع أن تسهم في مواجهتها أية رأسمالية محلية، أو يقوم على أساسها حوار الشراكات – وليس فقط الشركات بين أهل السوق العالمي، وطبقاتنا وحكامنا المخلصين لبلادهم!