رمتني خاطرة طارئة إلى عمق القرآن والعودة إلى هذا الكتاب يعني التمسك بجذور الإيمان بعيداً عن أهواء البشر التي تورد الإنسان في بحر الهوان. والإنسان هو العمود الأول لأي عمران بشري جال فيه ابن خلدون في مجلد ضخم أصَّل فيه لهذا العلم الذي سبق به زمانه واستفاد منه من غير أهله. بعد تعمير الإنسان ذاته تأتي العوامل الأخرى مكملات أساسية وفرعية وتحسينية، فالإنسان يمكن أن يكون بنفسه أصل الأرض والوطن في أي زمن. من كرّمه المولى، لا يحق لكائن من كان أن يهينه، تحت أي مبرر كان، فهو القائل جل في علاه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...)، «سورة الإسراء: الآية 70»، هكذا بالمطلق الذي لا يجوز لأي تشريع يخصصه باللوائح والأنظمة والقوانين، فأي قانون لا يُكرِّم هذا الإنسان، فهو فوقه ولا يعلو عليه أي قانون. ولو أن ظلماً وقع عليه من أحد، فلا بد أن تعود العدالة إليه ولو على مضض أو من خارج الرضى، وهو ما نجده في قول الله المولى سبحانه: (... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى? أَلَّا تَعْدِلُوا ? اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?...)، «سورة المائدة: الآية 8». في النفس الشيء، وفي العمل غير الصالح أشياء، وفي إنزال حكم العدالة شيء مقدس لا يمس بضغط سياسة الأهواء المذمومة، وقد تجد تفاصيله في كتاب ابن الجوزي «ذم الهوى»، فألجأ إليه إن شئت، فمن في (... أَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، «سورة إبراهيم: الآية 43»، لا يصلحون لركوب ميزان العدل الذي يجب أن يسود بني آدم وهو جزء أساسي من تكريمه ضد القريب، لتقريب البعيد بهذا الميزان. نرى أين ألقى بي ذاك الخاطر الوارد، إلى اعتماد مبدأ الأرقام لإثبات أهمية وحقيقة وقيمة هذا الإنسان الذي جاء من بني آدم ولا نعتقد هناك أحدا خارج هذا القانون. ولست هنا في معرض من يعرِّض كتاب الله إلى لغة الأرقام ولو من باب المعجزة، بل هو مجرد إثبات ما هو مثبت في القرآن منذ قرون، ولكن لأنه كتاب لا تنفد عجائبه وحقائقه، وجدنا فيه أن كلمات مثل الإنسان بالتعريف ورد فيه 56 مرة وبدون التعريف أي إنسان 63 مرة ومجموع هذه الأرقام هو 119 مرة، ولو قارنا هذه الأعداد بكلمات أخرى مثل «المؤمن» و«المؤمنون» و«المؤمنين» وجدنا النتيجة كذلك 119 مرة. ولو أضفنا كلمة أخرى إلى ذلك الصنف من المؤمنين، صنف آخر من المسلمين، فقد وجدناهم بكل مشتقاتهم ذكروا في القرآن 54 مرة فلو جمعنا كلمات المؤمنين إلى المسلمين، لكانت النتيجة 173 مرة، وهو قريب جداً من ألفاظ «الناس» التي وردت كذلك في هذا الكتاب العظيم ب 179 مرة، وهو يدل تماماً على ما ذكره المصطفى في بعض أقواله «الخلق كلهم عيال الله»، فعندما طلب إبراهيم عليه السلام من الله أن يمنع رزقه عن فئة غير المؤمنين به لم يقره على ذلك هو أبو الأنبياء لأن (... اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، «سورة الذاريات: الآية 58». ورد عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم «الخلق كلهم عباد الله، » وهو الميزان السليم لتقييم الإنسان وليس دينه ولا لون بشرته ولا أصله وفصله ونسبه وأضف من جهل البشر أهوائهم ما شئت، ولكن عند الله لا اعتبار ولا قيمة لكل ذلك فهو الذي (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ?...)، «سورة إبراهيم: الآية 27». ومن بعد تثبيته سبحانه لشأن الإنسان في كونه، جعل من الإنسان ذاته كمال رفع شأنه تحقيقاً لمغزى الخلافة (... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ? قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ? قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، «سورة البقرة: الآية 30». مع اعتراض الملائكة، أقر سبحانه أفضلية الإنسان عليها لأن هو أقدس من كل المقدسات على وجه الأرض، «لهدم الكعبة أهون على الله من قتل إنسان...»، وليس هنا أي ذكر لدينه ومذهبه وطائفته. (... مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...)، «سورة المائدة: الآية 32». فالحضارة، أهم مكوناتها الإنسان، وبغيرها، تسمى وحشية وهمجية وبربرية من أي مكان خرجت، وبأي أيد بنيت لأنه قتل للإنسان (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)، «سورة عبس: الآيات 17 - 23». نقول هذا القرآن احتفى بالإنسان، لأن المطلوب منه أن يكون القرآن العملي الذي يمشي على الأرض، فعندما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجابت «كان قرآناًَ يمشي على الأرض»، بأحكامه وقوانينه وهدايته، فهل نجد تكريماً لهذا الإنسان أكبر من كرم أكرم الأكرمين لرضاه بشأن هذا الإنسان بنيان هذه الأرض وأصل العمران. ذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: «أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة...» هل يحتمل الأمر من بعد ذلك أي مزايدة؟!