يخضع التعليم في جميع الدول العربية إلى مساءلة ترقى إلى مستوى الشك في اليقينيات والثوابت، وذلك ضمن إعادة النظر في كل مسارات حياتنا، وتطغى محاولات التغيير ـ منها الجادة، ومنها دون ذلك ـ على أنواع الخطاب الثلاثة: الديني، التربوي، السياسي، بهدف التجديد أولاً، وحدوث تقارب، ولو كان جزئياً، مع الحداثة ثانياً، وحسم المعركة مع الظلاميين لصالح التنوير ثالثاً. قد تكون تلك المساءلة مشروعة، وتتطلب تساؤلاتها وإشكالياتها إجابات حاسمة، تكون نتاج الواقع الأمبريقي، لكنها في الغالب الأعم ليست كذلك، نظراً للازدحام غير الحضاري، وأحياناً التدخل اللاَّمسؤول من غير ذوي الاختصاص، وأيضاً للاستعجال نتيجة الخوف المبرر من الحاضر والمستقبل، ولذلك تأتي معظم الندوات والمحاضرات خليطاً بين السياسة ومنظومة التعليم، حيث تتم المجاهرة في كثير من الأحيان بالسلبيات، لكن يتم توظيفها ــ طوْعاً أو كُرْهاً ــ لصالح القرارات السياسية الداعية للتغيير في مجال التعليم. ومع أن الوضع العربي العام سيئ في أسلوب تعاطيه مع محاولات التغيير والتطوير الهادفة، إلا هناك حالات عربية تسعى جادة للتغيير ضمن رؤية واعية، وأفق مستقبلي واحد، على النحو الذي يبدو جلياً في التجربة الإماراتية، وقد كشفت ندوة أقامها «مركز سلطان بن زايد» في الرابع من أبريل الجاري في أبوظبي تحت عنوان «تطوير التعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة»، بمشاركة فريق من الخبراء والمتخصصين، أن تطوير التعليم يتطلب جملة من الشروط، عرضت بعضا منها في التوصيات، وهي منشورة في معظم الصحف الإماراتية لمن أراد الرجوع إليها. في تلك الندوة تم الاسترشاد بما جاء في كلمة سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة، ومنها:«إنَّ فَجْوَةَ المعرفة، لا فَجْوَةَ الدَّخْلِ، أصبحت تُعَدُّ الْمُحَدِّدَ الرئيسيَّ لِمُقدَّرات الدُّول في العالم الآن.. إنَّ اكْتِسابَ المعرفة يأتي عن طريق التعليم والبحثِ العلميِّ والتطوير التِّقنيِّ، فلا مستقبلَ من دون النهضة في هذه المجالات في خِضَمِّ التحوُّلات العالمية السريعة، وعلى التعليم يَتَوَقَّف تَطَوُّرُ الأُمَّة ونُمُوُّها وحضارتُها..». الندوة أحدثت نقاشاً واسعاً، ومن بين القضايا التي طرحتها، استنادا للأوراق المقدمة والأفكار المطروحة، وهي تحمل نوعاً من الثنائية القائمة على الإلغاء والإقصاء، نذكر منها هنا: التعليم الحكومي والخاص، الحفظ والفهم، الطالب والمُدرِّس، العربية واللغات الأعجمية في مجال العلوم، والمحلي والعالمي في مجال التعليم، وغيرها، وهي ثنائية وهمية تُعشْعِشُ في أذهان أصحابها فقط، إما لقصور في الفهم، وإما لإدخالنا في درب آخر من دروب التيه التي نسلكها، أفراداً وجماعات، شعوباً وحكومات، وإما هي تًحْوِير وإفراغ للأطروحات الفاعلية والرؤى الاستشرافية لصناع القرار في دولنا. بغضّ النظر عن الدوافع والخلفيات، التي تأسست عليه تلك الثنائيات، فإن هناك أموراً لابد من تحقيقها، منها: التحكم الكامل للدولة في التعليم، بحيث يكون التعليم الخاص تحت إشرافها، وهذا على غرار كل تجارب الدول المتقدمة، وكذلك: الانتصار والتمكين للغة العربية في التعليم بما في ذلك الرياضيات والعلوم، ليس فقط أن تجارب عربية كثيرة أثبتت جدوى وصحة هذا الاختيار، ولكن لأن الدول المتطورة في التعليم مثل: اليابان وفنلندا، كوريا الجنوبية، وحتى الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا تدرس بلغاتها. وأيضا تحديد هوية التعليم، بحيث لا يحدث تناقض بين خصوصية الثقافة والأخلاق من جهة وعالمية العلوم من جهة أخرى، والعمل على استمرار الحفظ لأنه ضروري للفهم، مثلما الأول ضروري للثاني، والتركيز على تطوير الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي وثقافي، دون تمييز بين الطالب والأستاذ.. وباختصار فإن تطوير التعليم في الوطن العربي مرهون، بجدية القرار السياسي، وتفاعل أهل الاختصاص، وتجاوب كل القوى الفاعلة في المجتمع، على أن يكون بلسان عربي مبين في المستقبل، ولا ننسى أن هذا اللسان هو للعالم أجمع، كما أننا من أكثر الأمم والأقوام تعَلُّماً للغات الأعجميَّة.